بموجب دستور العشرين يوليو 1991 دخلت موريتانيا مرحـلة جديــدة من التعاطي الســياسي بعدما أقر الدستــور الجـديد نـظام التعـددية الديـمقراطية ،فبـدأت الخــلفيات السيــاســية تتــعامل مع المنحنى الجديد من خلال إقـامــة بعض أجنحتها لتـشكـيلات سـياسـية تعمل في الـعلن بـعدما أصبح منطق العمــل
الـسري الـذي كانــت تـقـوم به غير مبرر في ظـل الديمــقراطية المعلنة ، هــنا بـــدأت تشـكيلات سياسيــة بـوضع مـقاربات وبرامج سـياسيــــة لم تـخــتلــف كثيرا من حـيــث المـــضــمون والــطــرح، فكان كـل حـزب يقــدم رؤيــتـه بوصفــها الإطـار الـــذي سيخلص من تراكمات الماضي وتجـــــــاوز عقبات الحاضر والتطلع لمستوى حياة أفضل ينعم فيه الكل بالحرية والعدالة والديمقراطية.
لقد مرت الآن أكثر من عشرين سنة على التعددية الحزبية في موريتانيا والأحزاب السياسية لا تزال عاجزة عن أن تنال اهتمام المجتمع الموريتاني ولا تزال قاصرة عن أن تكون أداة للتنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، والأسباب وراء ذلك كثيرة ومتشعبة .
صحيح أن البيئة السياسية فاسدة لدرجة عجيبة ،وصحيح أن النخبة السياسية مبدعة في مجال التعاطي والتكيف مع الأنظمة لدرجة تكريس ثقافة الولاء للحاكم فقط ،لكن الأحزاب السياسية بدورها لم تأتي بجديد يذكر ،فجاءت فعلا وليدة هذه البيئة ،فلم تتميز عمليا في غالبيتها برؤى ومناهج واضحة تركز على مشاغل الناس وتطلعاتهم المستقبلية ، ولم تعتمد مقاربات اقتصادية وسياسية منبثقة من النموذج التنموي المعتمد على الذات ،لذلك لم تساهم من خلال برامجها ونشاطاتها في وعي المجتمع وضرورة تحمله لمسؤولياته في جميع مجالات الحياة المختلفة ،لذلك تركز الاعتقاد بأن أغلب الأحزاب السياسية في موريتانيا ليست جدية وليست إلا مجرد اسم وشعار اقتضتهما مسايرة مرحلة لم تتهيأ المقومات الثقافية والاقتصادية لقيامها ،ولعل غياب المعالجات الاقتصادية الواقعية لمشاكل الاقتصاد والتنمية ضمن برامج الأحزاب السياسية الموريتانية هو أكبر مؤشر على عدم جدية هذه الأحزاب.بل من البدع الغريبة أن تكون أحزابنا السياسية إن صح التعبير تتنافس موسميا لضم أكبر عدد من المواطنين لعضويتها، وتريد الحصول على أكبر عدد من المقاعد في البرلمان في حين تكاد برامج هذه التشكيلات تخلو من رؤية اقتصادية منسجمة مع متطلبات التنمية الوطنية وتعمل لتحقيق مستوى معيشي مقبول ورفاه اقتصادي شامل ،وكأن الحزب السياسي يقتصر أمره على الحديث في السياسة .
و لتسليط الضوء على الأبعاد الاقتصادية ضمن برامج الأحزاب السياسية سأقدم سلسلة مقالات تعرض مضامين الأفكار والخطط والسياسات الاقتصادية التي تتبناها تلك الأحزاب السياسية و وتوضح موضوعيا مستوى حضور الحل الاقتصادي كمدخل للتنمية وأداة للوصول للحكم ،وستكون بداية هذه السلسلة مع حزب الإتحاد من أجل الجمهورية.
بغض النظر عن الظروف والملابسات التي نشأ ت فيها هذه التو لفة ، ،فإن الاتحاد من أجل الجمهورية تزعم المشهد السياسي الموريتاني ،وحصل على أكبر عدد من البرلمانيين وهو الحزب الحاكم الذي من المفترض أن يكون الذراع السياسي للحكم فهل شكل البعد الاقتصادي في برنامج هذا الحزب الوليد( الاتحاد من أجل الجمهورية )استثناءا في النسق العام الذي تحدثنا عنه في المقدمة ،استثناء جعل أغلبية الشعب تتعلق به أملا في تحسين الظروف والحد من آثار الفقر والتخلف ؟ أم أن كشكولا لتأمين المصالح كان وراء سيطرت الحزب الوليد على المشهد السياسي ؟
للتعرف على مدى حضور الجوانب الاقتصادية ضمن برنامج الاتحاد من أجل الجمهورية سنقوم منهجيا بعرض بعض ما جاء في وثائق الحزب (المستوى النظري ) ،لنتناول بعد ذلك الأبعاد والمضامين التي وردت في هذه الوثائق على أن يكون ذلك في ضوء ما نعتقد أنه مدخلا للتنمية الاقتصادية والاجتماعية التي يجب أن تكون الأساس في تحديد الولاء لهذا الحزب أو ذاك .
أولا : عرض لأهم مرتكزات الرؤية الاقتصادية لحزب الاتحاد من اجل الجمهورية
لقد عبر الحزب في برنامجه السياسي عن أربعة محاور من بينها المحور الاقتصاد ي ،لذي رأى فيه ضرورة قيام تنمية اقتصادية مستدامة تعتمد على استغلال أمثل للمقدرات الوطنية وتستفيد من ميزات اقتصاد السوق وما توفره التكتلات الاقتصادية الإقليمية والدولية من مزايا وضمانات،ومن هذا المنطلق وعلى ضوء هذه الخلفية رسم الحزب إستراتيجيته الاقتصادية على أساس ما أسماه التشخيص وتحديد المقدرات والمعوقات ومنه تحديد الخطط والآليات اللازم اعتمادها لتنمية البلاد ،وقد عبر الحزب عن اهتمامه بالبناء الاقتصادي محددا أولوياته في سبعة نقاط على النحو التالي :
1 ـ الاستغلال الأمثل و المعقلن للثروات الطبيعية المختلفة الموجودة في البلد كالصيد والزراعة والتنمية الحيوانية والأمن الغذائي والمعادن والطاقة والسياحة .
2 ـ خلق أقطاب تنموية :
ذكر الحزب في برنامجه أنه سيعمل على خلق أقطاب تنموية تأخذ بعين الاعتبار المؤهلات والموارد المحلية لكل منطقة وذلك ضمن إطار سياسة شاملة
3 ـ تطوير البني التحتية :
اعتبارا لدورها في إحداث التنمية الاقتصادية قرر الحزب انتهاج سياسة تهدف إلى تطوير البني التحتية من أجل تسريع وتيرة التنمية
4 ـ خلق مناخ استثماري فعال حيث يشمل على الخصوص :
- خلق مناخ ملائم للاستثمار والتحسين المستمر من المنظومة القانونية
- وجود نظام قضائي مطمئن
- تحسين سياسات الولوج إلي التمويلات المصرفية
- تحسين خبرة اليد العاملة
- مواءمة النظام الضريبي
- احترام قواعد المنافسة السليمة
5 ـ تنويع وتشكيل موارد تمويل الاقتصاد الوطني وتفعيل آليات التمويل المتوفرة والبحث عن مصادر جديدة وتحسين الخدمات المصرفية وتطوير الأسواق المالية المحلية .
6 ـ تحسين الحكامة الاقتصادية من خلال
تبني إستراتيجيه محاربة الفساد وتفعيل آليات الرقابة والتفتيش
7 ـ الاستفادة من الاتفاقيات الاقتصادية الدولية
ثانيا : نقد وتحليل الرؤية الاقتصادية التي يتبناها حزب الاتحاد من أجل الجمهورية
بعد عرضنا للمحاور الاقتصادية الأساسية التي تضمنها برنامج حزب الاتحاد من اجل الجمهورية فإننا سنقدم قراءة تحليلية للأبعاد والجوانب الاقتصادية التي تضمنها البرنامج .
من خلال تتبع المحاور الواردة في البرنامج أعلاه يتضح اهتمام الحزب بالتنمية الزراعية والرعوية حيث اعتبر البرنامج أن القطاع الريفي يجب أن تكون له الأولوية ضمن البرامج التي يتم تبنيها من طرف جهاز التخطيط ومتخذي القرار، كما اعتبر أن ذلك من شأنه أن يصحح الأخطاء التنموية التأسيسية التي طالما شوهت الاقتصاد الموريتاني وكلفته خسائر كبيرة في الناتج المحلي والدخل القومي، لكن الإشكال أو المفارقة الواضحة هي أن الحضور الواضح لمكانة وأهمية ودور القطاع الريفي في برنامج الحزب على المستوى النظري لم تواكبه اهتمامات وطموحات مماثلة على المستوى التنفيذي، فأدوات الحزب لتنفيذ هذا البرنامج لم تستطع وضع آلية واضحة ومقنعة من شأنها النهوض بهذا القطاع واستغلال الموارد الهائلة التي يتوفر عليها البلد وهو ما يفهم منه عدم الجدية والسير في ثقافة الماضي ،كذلك الحزب لم يذكر في سياسته الاقتصادية رأيا فيما يتعلق بضرورة إعادة النظر في الاتفاقيات الدولية التي يمثل الوفاء ببعض بنودها تكريسا لواقع تخلف القطاع الريفي خصوصا والاقتصاد الوطني عموما وهي الإجراءات التي تجب الإشارة وبوضوح للموقف منها حتى يمهد لقيام اقتصاد متوازن ومنسجم يمكن أن تقام فيه أقطاب اقتصادية بإشراف الدولة وعن طريق سياستها المالية .
لقد عبر الحزب في برنامجه عن حرصه على خلق مناخ استثماري محفز وملائم ، لكن خلق مناخ اقتصادي يتماشى ومتطلبات التنمية المتوازنة يتطلب إعادة النظر في السياسات المالية والنقدية وكذلك الخيارات التنموية حيث من اللازم تبني سياسة حمائية للصناعات الوليدة عن طريق تكييف واستغلال وإدارة السياسة الضريبية الكلية ضمن السياسة الاقتصادية العامة ، الشيء الذي لم يتطرق له البرنامج بشكل واضح ،حيث لم يتعرض لطبيعة وتوجهات السياسة النقدية التي سيتبناها لتحقيق الأهداف الإستراتيجية للتنمية الشاملة ،كالمعدلات المناسبة للتضخم والاستخدام( التشغيل )،ونمو الناتج الإجمالي الداخلي ،والرصيد الخارجي لميزان المدفوعات .
فيما يتعلق بالصيد والمعادن فإن السياسة الاقتصادية للحزب أقرت بضرورة قيام أقطاب تنموية تأخذ بعين الاعتبار المؤهلات والموارد المحلية لكل منطقة ، وهو ما يحسب تفكيرا مهما في اتجاه البناء الاقتصادي الصحيح وفي إطار العدالة الاجتماعية وتوزيع الاستئثار وخلق مرتكزات متعددة لحماية الاقتصاد الوطني من التشوه في النمو والقدرة على مواجهة الهزات التي قد تحدث بفعل الأزمات الاقتصادية الدولية ، لكن الحزب لم يشر إطلاقا في برنامجه للخطط التنموية التي سيتبناها عمليا لدمج مدخلات قطاعات الاقتصاد الوطني وتشجيع اندماجها بطريقة أكثر عمقا ودلالة ، فلم تكن الرؤية في هذا الجانب الجوهري مفصلة وملفته .
صحيح أن الحزب وضع إطارا نظريا أكد فيه على التكامل الاقتصادي اللازم بين قطاعات الاقتصاد الموريتاني بخصوصياته الريفية والصناعية والبحرية ، واعتبر ذلك المدخل الأساسي للتنمية ،لكن الجدية في الأمر تتطلب مراجعة شاملة للاتفاقيات الدولية والإستراتيجيات التنموية المحلية في ضوء متطلبات ومقتضيات دعم وتقوية الاقتصاد الوطني في وجه الاندماج الاقتصادي وتحديات العولمة ،حيث يتم الإقرار والتعبير في سياسة الحزب عن ضرورة تبني إستراتيجية وطنية تضمن استئثار الجميع بعائدات الصيد والمعادن من خلال تخصيص نسبة من عائدات قطاعي الصيد والمعادن لتعبئة وتنمية القطاعات الاقتصادية الأخرى كالزراعة والرعي وقطاع السياحة على مستوى التراب الوطني ،
من جهة أخرى يلاحظ بشكل واضح غياب سياسة واضحة في مجال التشغيل و تصور لحل مشكل البطالة، على الأقل من خلال ضرورة تبني فكرة خلق صندوق تأمين البطالة وآفاق النهوض بمجال القروض الصغرى،ولا يفوتنا هنا أن نشير إلى إن الحزب لم يتبنى أيضا رؤية واضحة لدعم وتشجيع المشاريع الصغيرة والمتوسطة ( القطاع غير المصنف ) بحيث تعطى ميزات تنافسية للاستثمارات الوطنية .
يتواصل إنشاء الله