إذا كان الحوار... تعتريه أحكام الشرع الخمسة ، فإن الأصل فيه الجواز وذلك هو حاله في ظل واقعنا السياسي هذا ، ذلك لأن نهوض الدولة بسواعد جميع أبنائها ، هو الأكثر ضمانا للسكينة العامة في البلد . ورغم الاختلافات البينة في مشهدنا السياسي اليوم ، لم ينكر أي طرف أهمية إقامة
حوار شامل بين الأطراف السياسية في البلد ، لكن الحوار رغم ذلك لم يتقدم قيد أنملة، ولا ندري هل بسبب الدعوة إليه رفض الحوار؟ ، أم بسبب رفضه لم يتم حتي الآن ؟، الأمر الذي جعلنا نتساءل عن تعثر الحوار مسؤولية من ؟.
لقد كثر الحديث عن الحوار ودواعي القيام به ، وعن رفضه ومآلات فشله ، والظاهر أن كلا من النظام والمعارضة يحمل الآخر مسؤولية عدم قيام الحوار حتي الآن ، لكن قراءة متأنية للمشهد السياسي تأخذ بعين الاعتبار كل الأبعاد ، يمكن أن تزودنا أو تكشف لنا عن إجابة حقيقية لذلك السؤال المطروح منذ بعض الوقت !.
في رأينا وبعد نظرة فاحصة للحراك السياسي في بلدنا ، يمكن أن نقول بأن مسؤولية فشل الحوار مشتركة بين النظام والمعارضة ، فالنظام رغم ما بذل من جهود مضنية في النهوض بالبنية التحتية ، ورغم ما قامت به الوزارات المسؤولة عن توفير الخدمات المباشرة للمواطنين ، من تحسين ، وتوسيع مستوي خدماتها ، فإن وزارة مهمة كوزارة الصحة ، ورغم ماقامت به من جهود جبارة ، تمثلت في تحسين أداء المستشفيات في عموم التراب الوطني ، وبناء مستشفيات جديدة لإستيعاب وتغطية الحاجة وتخفيف الضغط علي المستشفيات ، ورغم ما أنشأت من مستشفيات متخصصة (في أمراض معينة ) ورغم تجهيز كافة المستشفيات بأجهزة الكشف الحديثة ، ورغم تغطية كافة المراكز الصحية بالأطقم البشرية التي تحتاجها ، فإن هذه الوزارة : عجزت ، أو لم تشأ ، أو لم تدر مدي حاجة البلد إلي مستشفي متخصص في الأمراض النفسية ، ولم ترخص حتي الآن لأي عيادة متخصصة في ذلك المجال .
نعلم أن هناك مستشفي يسمي في أوساطنا العامة " طب جاه ، أوطب المجانين " وهو مستشفي أصبح سيئ السمعة بسبب تلك التسمية، ولذلك فإن الكثيرين منا لا يحبون أن يعرضوا أنفسهم عليه ـ رغم حاجتهم إلي ذلك ـ حتي لا يقال إنهم مجانين ، والواقع أنهم علي حق ، لأن بعض الحالات النفسية التي تحتاج إلي أخصائي في علم النفس ، ليست حالة جنون (حالة عقلية) ولذلك لا ينبغي أن يذهب صاحبها إلي مستشفي المجانين ، معني ذلك أنه كان علي النظام وخصوصا وزارة الصحة أن تنشء مستشفي حديثا ، يسمي مستشفي الحالات أو الأمراض النفسية ، حتي لا يكون منفرا مثل "طب جاه" ، وتزوده بالأطقم اللازمة من متخصصين عامين في الحالات النفسية ،وأخصائيين نفسانيين : إجتماعيين ، واقتصاديين ، وسياسيين.... وعلي النظام أن يوفر الدعم اللازم لهذه المنشئة الطبية إذا أنشأها ، ويفرض أكلة المال العام علي المرور بها، لأن حالات من أكل المال العام حصلت في البلد بعد كل ماقامت به الدولة من محاربة الفساد ، خصوصا لأكلة المال العام ، بحبسهم ، وتجريدهم من مناصبهم ، وتغريمهم ، تدل علي أنهم في وضعية نفسية غير سوية ،وبالترخيص لعيادات متخصصة في الحالات النفسية يرتادها من لا يريد أن يظهر أنه يمر بحالة نفسية تحتاج المعالجة . مثل هذه المنشآت موجود في أغلب دول العالم ، والحاجة إليه متزايدة بسبب ضغوط الحياة اليومية وصعوبة العيش في زماننا هذا ، ويعتبر ارتيادها عندهم مفخرة ودليلا علي الرقي والتقدم ، لأن هذه الإختلالات النفسية إن لم تتم معالجتها ، إما أن يفقد المرء بسببها مصالح كانت مؤكدة الحصول ، أو علي الأقل يتأخر حصولها ، وهو مالا يرضاه إنسان القرن الواحد والعشرين لنفسه ، لكن ذلك الإنسان يبدوا أنه معذور في بلدنا ، بسبب غياب تلك المنشآة الصحية البالغة الأهمية ،مع العلم بأنه قد لا يرتادها إن وجدت .
ويعتبر غياب تلك المنشأة ـ في نظرنا ـ هو السبب الرئيس الذي تسبب في عدم جلوس الأطراف السياسية في بلدنا علي طاولة الحوار المرتقب منذ ما يزيد علي سنة كاملة ، فالنظام لم يفهم أن المنتدي يحتاج أولا إلي حوار في مصحة نفسية مع طبيب نفسي متخصص ، والمنتدي ـ أيضا ـ إلي حد الآن لم يشأ الإعتراف بحقيقة أن مشكلته مع النظام والحوار المرتقب هي مشكلة نفسية بحاجة إلي المعالجة ، ولذلك فإن الحجج والممهدات التي يعلنها المنتدي لأجل رفضه الحوار تبدوا غير كافية لإقناعهم بإجابية موقفهم الرافض للحوارـ كما يتضح ذلك من خلال الخرجات الإعلامية التي يجرؤون علي القيام بها ، والنظام لم يفهم جيدا أنهم غير مهيئيين نفسيا للحوار ، لكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو : ماهي تلك الحالة النفسية التي تقف حجر عثرة أمام التئام وانسجام المشهد السياسي في بلادنا ، وتمنع من الدخول في حوار شامل خدمة للوطن والمواطن الموريتاني؟.
إن المشكلة النفسية التي يعاني منها المنتدي هي وجود السيد محمد ولد عبد العزيز في قمة هرم السلطة ، والسبب في ذلك ـ حسب ما يظهر من خطاباتهم من علي المنابر ، وكتابات إعلامييهم يعود إلي أن أغلب قادة المنتدي.... كانوا منذ أمد بعيد رموزا للنضال السياسي في البلد ،وأصحاب أحزاب سياسية ، وكانوا يطمحون إلي الوصول إلي السلطة في بحر العقدين الماضيين . معني ذلك أنهم أهل خبرة سياسية كبيرة ، ويرون أنهم مأهلون علميا ، وفكريا ، وسياسيا ، لقيادة البلد ، ومنذ زمن وهم يبذلون الغالي والنفيس من أجل الوصول إلي السلطة ، ولم يتمكنوا من الوصول إلي ذلك الهدف ، تلك مصيبة ولدت في أنفسهم شعورا بعدم التفوفيق (الحظ) ، لكن المصيبة الأكبر ـ حسب رأيهم ـ هي أن يجدوا أنفسهم تحت قيادة شاب لم يخبر السياسة من قبل ، ولم يملك حزبا سياسيا ولم يناضل في صوفه علي الأقل ، وليس علي مستوي علمي مثلهم ـ حسب ما يتصورون ـ وفجأة يأتي هذا الشاب إلي قمة هرم السلطة ،ويتوغل في نفوس المواطنين بسرعة، فيحبونه بقوة .
ههنا كانت الصدمة التي عكرت صفو المشهد السياسي ، منذ وصول الرئيس محمد ولد عبد العزيز إلي السلطة ،وليس رفض المنتدي للحوار إلا وجها من أوجهها ،فمنذ ذلك الوقت ،والمعارضة مجتمعة(جبهة) ، تناضل تريد : عدم الإعتراف الدولي بسلطة الرجل ، لكن المجتمع الدولي اعترف بها ، وأكثر من ذلك أعجب بالرجل كثيرا ، وظهر ذلك في النجاح الباهر الذي حققته دبلوماسيتنا في السنوات الأخيرة . تريد عزله من خلال صناديق الإقتراع في انتخابات يحوزون فيها علي كل المناصب مؤثرة في العملية الإنتخابية ، وزارية كانت أو مديرية،وفاز عليهم في الشوط الأول ،تستغل ما سمي بالربيع العربي ، وتريد مجتمعة (منسقية) ترحيل الرجل بالقوة ، ولم تستطع ترحيله بالقوة ، وأخيرا لم يبق أمامها إلا أن تستسلم للأمر الواقع ، وتنشد مجتمعة ( منتدي ) الخلاص منه من خلال الدستور الذي لا يسمح بمأمورية ثالثة !!.
ذلك الإستسلام هو مايفسره ركودهم السياسي وعدم جديتهم في دخول الحوار المرتقب ، ويتمنون لو أنهم ناموا نومة أهل الكهف ، ولا يستيقظوا إلا وقد أصبح كرسي الرئاسة فاضيا لا عزيز فيه ،ويطمح في الوصول إليه كل منهم ، حينها لن يبق إثنان منهم في صف واحد .
ورغم أن العلة النفسية هي الأساس الذي أبعد المنتدي عن الحوار ، ورغم عدم وجود أهتمام كبير بالاختلالات النفسية ...، فإن المنتدي يظل ـ أيضا ـ مسؤولا هو الآخر عن عدم قيام أو حصول الحوار المرتقب ، ذلك أن المرء يعي في الغالب ـ إذا كان متأثرا نفسيا ـ أنه في حالة نفسية غير سوية ،علي خلاف المصاب بإختلال في العقل ، فالحالات النفسية هي مسألة عادية جدا ، ولذلك فإن قادة المنتدي يعلمون في قرارة أنفسهم ، أنهم مخطئون بخصوص موقفهم من الرئيس محمد ولد عبد العزيز، سواء تعلق الأمر بشخصه ، أو تعلق بتسييره للبلد .
أما بخصوص تصورهم لشخص الرئيس ، فهم يعلمون جيدا أن الرجل أثبت جدارة منقطعة النظير في القدرة علي القيادة ، وليس عجزهم عن إزالته عن السلطة بشتي الطرق وفي ظرفية تتسم بالصعوبة، وقدرته علي تعزيز الصداقة مع الدول العظمي في العالم وسائر دول العالم، وفرضه مكانة لائقة للبلد في المجتمع الدولي، إلا دليلا علي قوة الرجل ، ودليلا علي أنه يتمتع بموهبة قيادية فذة . إنكارها يتجاوز العمي السياسي ،إلي مستوي الاختلال النفسي .
وبخصوص تسييره للبلد ، فهم (قادة المنتدي ) جد متأكدين بأن ما أنجزه الرجل ـ خدمة للبلد ـ في خمس سنوات ، لم ينجز ثلثه طيلة خمس عقود خلت ، أي منذ استقلال البلد حتي الآن . فهم مثل جميع المواطنين لهم أعين يرون بها ، وقلوب يعون بها ، ولابد أنهم أطلعوا بشكل جيد علي ما اطلعت عليه الناس من نخب أمثالهم وعاميين من تحسن كبير حصل في البلاد علي جميع الأصعدة ، تلك حقيقة سواء أخفوها فهي بادية للعيان في إنجازات كثيرة لا يمكن إنكارها ، ويشهد الشعب الموريتاني بها ، ولذلك منح هذا الشعب ثقته دون ارتياب لهذا الرجل.
فإذا كان علي المنتدي أن يقبل الدخول في الحوار ، وأن يخفف من حقده لشخص الرئيس من أجل خدمة الوطن بصفة عامة . بمقدوره أن يفعل ، لكنه لحد الساعة لم يشأ ، ولذلك فهوـ أيضا ـ مسؤول عن فشل الحوار إذا فشل ، ومسؤول أيضا عن تهميش الأحزاب المنضويين تحت شعاره من المشهد السياسي ... وتنسحب مسؤوليته علي تبعات انعدام استقرار الوضع السياسي في البلد .
أما وقد اتضحت لنا الأمور ، وعلمنا أن المنتدي يستحيل عليه الآن أن يدخل في حوار مع نظام الرئيس محمد ولد عبد العزيز ، بسبب الحالة النفسية التي يعيشها قادته (حساسيتهم المفرطة من الرجل)، فهل يجوز أن ندعوا النظام إلي عدم تضييع الوقت في محاولة جر المنتدي إلي الحوار ، لتفادي التعب ، والخذلان ،والدخول فيه فورا بدونه ؟ . الجواب هو بالطبع لا لا لا ، لابد أن يستمر النظام في مطالبة المنتدي بدخول الحوار إلي آخر لحظة ، وبشتي الطرق ـ حتي ولو أُولَ ذلك علي أنه ضعف واعتراف من النظام بوجود أزمة سياسية،أو نفسية ، فذلك لا يهم ـ حتي إذا كان الوقت اللازم والضروري لقيام الحوار الشامل ،تعلن الأطراف المستعدة للحوار انطلاق جلساته، وقد حصل لها العذر المنجي من اللوم ، والتأنيب ،بسبب تهميش أي كان ، أو بالتقاعس عن واجب وطني حان وقته ، لأن آخرين لم يستعدوا للمشاركة فيه.