دخلت مرة على أحد باعة الهواتف النقالة، وسألته عن سعر هاتف صيني، فقال لي إنه بالمبلغ كذا.. قلت له سأحكي لك طرفة وإذا أعجبتك بعت الهاتف بسعر أقل، فقال تفضل احكيها.. قلت له إن أحدهم حبك هذه القصة، وهي تقول إن مواطنا صينيا كان يعمل هنا في موريتانيا، فتزوج من فتاة موريتانية
سمراء أنجب منها طفلا جميلا " عُجن" فيه لون الصينيين الأصفر ولون الأفارقة الأسمر.. مما جعل الجيران يحبونه ويأتونه يوميا بالهدايا والحلوى، لكن الطفل مات في الرابعة من عمره، فجاء الجيران مرة حاملين هداياهم لكنهم لم يجدوا الطفل فسألوا عنه أمه، فأخبرتهم بأنه مات.
حزن الجيران وتأثروا أيما تأثر لهذا الخبر، لكنهم استغربوا من أن أمه غير متأثرة، بل كانت تضحك وكأنها ليست أما فقدت فلذة كبدها، وخاصة أنه كان طفلا جميلا.. سألوها عن السر في ذلك، فقالت لهم إنها لم تحزن عليه لأنه مجرد " طفل صيني " كانت تتوقع أن يموت في أي لحظة على غرار الأجهزة والصناعات الصينية..!
هكذا هي الصين في عيوننا، لكن الصين اليوم شيء آخر، لا يحتاج محدث إلى الحديث عما أصبحت عليه، فبعد أن ظلت الولايات المتحدة تحمل اسم " الدنيا الجديدة " في الغرب طيلة القرن العشرين، ها هي هذه الدنيا الجديدة تحزم أمتعتها اليوم باتجاه الشرق ونحو الصين بالذات. ولدى الصينيين كل أنواع ودرجات الصناعات، وليختر المشتري ما يختاره منها، رخيصا ورديئا كان، أو ثمينا وغاليا.. هذا في المجال التجاري، أما في مجال التعاون، فللتعاون الصيني الكثير من الميزات التي تناسب وتلبي حاجات عالمنا الثالث.
فالصينيون يهبون ويمنحون ويمولون بفوائد ميسرة، لكنهم أيضا ينفذون ما يمولونه، أو ما يسند إليهم من منشآت من تمويل غيرهم بسرعة وإتقان، وفي ذلك يقول أحد المتفكهين إنه مر عليهم في طريقه إلى روصو وهم يحفرون أساسات المبنى القديم لشركة " سونادير " في مقاطعة عرفات، وعاد في المساء فوجدهم يغتسلون وقد أنهوا الأعمال فيه..
والصينيون لا يحتاجون في التعاون معهم لما يتطلبه الظفر بالحصول على رأس المال الغربي من وسطاء وعلاقات عامة وابروتوكولات، وإجبارية مرور بمؤسسات مالية دولية لها معاييرها وأهدافها الخاصة وروتينها الطويل..
وهم لا يتدخلون للشعوب في خياراتها ولا في دياناتها وثقافاتها، كن مسلما أو مسيحيا أو ملحدا، أو كن نظاما ليبراليا أو اشتراكيا، سلفيا أو علمانيا، ديمقراطيا أو شموليا.. فالصينيون يتحركون طبقا لمصالحهم وبحثا عن مكانة لأمتهم الصاعدة بسرعة صاروخية، لكنهم، وهم يبحثون عن مصالحهم، يرعون أيضا مصالح الآخرين، على العكس من جهات أخرى تسعى دوما للحصول على مصالحها، لكنها لا تسخى إلا بالفتات وبالكثير من الشروط الضامنة للتبعية الاقتصادية والثقافية لها، والمغلفة بمصطلحات الديمقراطية والحكم الرشيد وحقوق الإنسان! وربما يؤخر الصينيون فرض الشروط الضامنة للتبعية الاقتصادية والثقافية لهم إلى وقتها المناسب، حين يصبحون هم المسيطرون..
وفي هذا المجال قرأت لمواطن موريتاني، يبدو أنه مقيم في الصين، مقالا يعالج آفاق التعاون الموريتاني الصيني، و" يطرح أراي " للصينيين بأن عليهم التعامل مع الشعوب بدل التعامل مع الأنظمة التي يعتبرها فاسدة.. ويالها من مضيعة للوقت أن نقترح على الصينيين ماذا عليهم فعله! فواضحة جدا للصينيين أهدافهم ومصالحهم والطرق التي يصلون بها إلى تلك المصالح والأهداف، ويدركون أنهم يسابقون الوقت، وينافسون قوى دولية أخرى، على خلق مكانة لهم في قارة نهب الآخرون خيراتها وتركوا شعوبها تستف التراب جوعا، وتعاني نقصا حادا في مجال البنى التحتية والإنشاءات ( ديدن الصينيين )، ولم يقدم لها ناهبوا خيراتها ومستعمروها، بعد أن شبعوا وتغطوا من تلك الخيرات، سوى دروس ومواعظ الديمقراطية وحقوق الإنسان ( الطير في سياق الموت والطفل يلعب )! وبالتالي فلن يضيع الصينيون ثانية واحدة في انتظار أن يصبح هذا الحكم أو ذاك رشيدا أو صالحا، ديمقراطيا أو شموليا، خاصة أن معظم مجالات تعاونهم هي بنى تحتية باقية..
بالنسبة لنا لا مدينة اليوم من مدننا إلا وبها ورشات تنموية، إما طرقا لربطها بالشبكة الطرقية، أو شبكات مياه، أو محطات كهرباء، أو مستشفيات ومراكز صحية، أو مدارس وإعداديات وثانويات ومعاهد ومدارس صحية أو مهنية، أو ملاعب ودور شباب ومباني إدارية للمصالح الإدارية والأمنية، ويتولى تنفيذ العديد من هذه المنشآت مقاولون وطنيون يأخذون الكثير من الوقت لإنهاء الأعمال فيها، ولا يحترمون المعايير الفنية في تنفيذها.
لدينا إذن مشكلة إسمها المقاولون الوطنيون، كنا نعلم ذلك من قبل، وقد وقف عليه رئيس الجمهورية خلال زيارته الأخيرة للولايات، واعترف به وزير الإسكان بالأمس، كما اعترف به أسلافه في الوزارة من قبل، عازما على فسخ العقود مع الجهات الغير قادرة على الوفاء بالتزاماتها في تنفيذ المنشآت المسندة إليها في الوقت المتفق عليه، وبالمعايير الفنية المطلوبة. ومشكلة هؤلاء المقاولين الذين يجمع أغلبهم بين " خصلتي " نقص الخبرة وغياب المسؤولية، أنهم كمثل " أمحارت الشط " التي يقولون إن من أخذها من مكانها يموت أباه، ومن تركها تموت أمه..! فهم إذا أسندت الدولة بناء المنشآت لشركات أجنبية تمتلك الخبرات وتلتزم بالمعايير، أقاموا الدنيا ولم يقعدوها متهمين الدولة بإقصائهم وتجويعهم، وإذا انطلقت الدولة من أنه كلما كان البناء والتعمير بأياد وطنية كلما كان ذلك أحسن، وأسندت لهم بناء المنشآت، اعتبروا ذلك فرصة لتكوين رأس المال على حساب الدولة ومنشآتها والمجتمع ومصالحه، وكثيرا ما يمضون في تنفيذ المنشآت حتى المنتصف ويتوقفون ابتزازا للدولة من أجل دفع المزيد!
قال لي أحدهم مرة إن السبب في ذلك هو أن الدولة لا تراقب بصرامة من تُسند إليهم تنفيذ هذه المنشآت، فقلت له إن تلك مشكلة أخرى، بل معضلة.. فالكثيرون ممن يكلفون بالمراقبة بحاجة لمن يراقبهم هم أيضا، ومن سيراقبهم بحاجة لمن يراقبه.. وهكذا مع الضمير الميت والشعور الوطني السقيم لا يكون للرقابة أثرا كبيرا، وقد قال لي شاب كان يعمل مع أحد هؤلاء المقاولين " الوطنيين " إنه كان يأمرهم بأن يجعلوا كل ما هو غير ظاهر تحت الأرض من الطين بدل الإسمنت بالمنشآت التي يتولى تنفيذها!!
وقد بدأت هذه " الهنزوكة " في تسعينات القرن الماضي، عندما توزع الكل إلى حاملي أربعة أنواع من الحقائب. هي حقائب الأحزاب السياسية، وحقائب ما سمي بمنظمات المجتمع المدني، وحقائب أختام الدولة لتجنيس وتوطين الراغبين في ذلك من الأجانب، وحقائب المقاولين والموردين الوهميين، دون أن أنسى طبعا حقائب الصحافة والصحفيين..!
فعلى مستوى تدني المعايير الفنية في منشآت تلك الحقبة، وما طبع تنفيذها من غش وتطفيف، فباد للعيان تهاوى تلك المنشآت الرديئة حتى وهي قائمة قبل أن تتهاوى، والتي أضطرت الدولة اليوم لبنائها من جديد دون الحاجة لتكاليف هدمها لأن الغش هدمها..! أما التأخر في التنفيذ فلم يكن قائما في تلك الحقبة، لا لالتزام المقاولين أو صرامة الدولة، وإنما لأن أيدي المسؤولين مبسوطة كل البسط، وإجراءاتهم غاية في لإسراع في سحب مخصصات المنشأة موضع المقاولة، لأن لهم فيها نصيب مقابل منحها للمقاول أصلا..
لكن التأخر في تنفيذ المقاولين لما يسند إليهم تنفيذه من منشآت لا زال بعضه قائما، ولدي في ذلك مثال لا أجد أقرب منه مثالا، وقد ذكرته سابقا لغرابته، وهو بدء الأشغال في النافورة الواقعة بملتقى الطرق المعروف بدوار " ولد أماه " والتي تولى إنجازها مقاول محلي، وذلك بالتزامن مع بدء الصينيين في أعمال بناء مقري الوزارة الأولى ووزارة الخارجية، لينته الصينيون من بناء هذين المبنيين المؤلف كال منهما من أربعة طوابق ومئات المكاتب والقاعات، ويسلمانهما للدولة وتنتقل إليهما القطاعات المخصصين لها، وبعد ذلك بستة أشهر انتهت الأشغال في النافورة المذكورة!
نجد كذلك أن توسعة المركز الصحي لمقاطعة تيارت مثلا، والتي تتألف فقط من قاعات حجز ومكاتب ومختبر، ويتولى تنفيذها مقاول محلي أيضا، تم وضع حجرها الأساس من طرف رئيس الجمهورية قبل وضع حجر الأساس للمطار الدولي الجديد، الذي هو أهم وأضخم معلمة تنموية في البلاد منذ نشأتها، ومفهوم تأخره لتعقيداته الفنية وحجمه وحساسيته، وما يتطلبه ذلك كله من وقت وجهد.. ومع ذلك لم تنته الأشغال في توسعة هذا المركز الصحي إلا قبل أيام، أي قبل ثلاثة أشهر من انتهاء وتسليم المطار!! وهذه ليست وتيرة ستمكن بلدا فاته الكثير، ويتوقف وضع الأسس الصحيحة لتنميته على سرعة تعويض ما فاته إنجازه من البنى الأساسية للتنمية، لن تمكنه هذه الوتيرة من تحقيق ذلك.
وتمرون اليوم على أكوام من الحجارة على شارع الاتحادية بمحاذاة مقاطعة لكصر معدة لتبليط شوارع هناك، لكنها الآن في ذلك المكان للعام الثاني، وهناك أنابيب مياه حال عليها الحول وهي على بعض الشوارع دون الحفر لها وتركيبها وردمها، وكل ذلك بفعل تهاون المقاولين، كما أن هناك غياب تنسيق غريب بين جهات هذه المقاولات، فنجد طريقا يتم تعبيده، وبعد أسابيع تعبره وتشقه أنابيب المياه في جميع الاتجاهات، وأنابيب مياه أو أسلاك كهربا يتم الحفر لها وردمها، وبعد أسابيع تأتي الجرافات لتعبيد الطريق فتقتلعها!
خلاصة الكلام إذن هي أننا بلد منطلق من الصفر فيما يتعلق بالبنى التحتية والإنشاءات العمرانية، ولا نتوفر على الخبرات في هذه المجالات، أقول ذلك وعلى مسؤوليتي، لم نكن نمتلك تلك الخبرات في البدء لأن المنشآت ذات القيمة التي ظهرت مع نشأة الدولة، والتي لا زالت قائمة بناها العمال السنغاليون أو المغاربة أو السعوديون ( المسجدين )، بالإضافة إلى منشآت أخرى بناها الصينيون، ولم نمتلك تلك الخبرات في ما تلا ذلك من السنين. وبإمكاننا الاستمرار في إسناد تنفيذ المنشآت لمن لا يملكون الخبرة ولا حتى الشعور بالمسؤولية، لتنهار وتتآكل سريعا ونعيد بناءها، و بنفس الطريقة، من جديد.
أما إذا أردنا إقامة بنى تحتية كالطرق والجسور والسدود والموانئ والبنايات الحديثة وشبكات الصرف الصحي تبقى لعشرات السنين، ويُمَكن إنشاؤها من العبور إلى ما بعدها من مجالات التنمية الأخرى، فليس أمامنا سوى الاعتماد على الصينيين بحكم تجربتنا المشجعة معهم في هذا المجال، فنحن بحاجة لهذه الإنشاءات وهم يمدون لنا الأيدي، كانوا يمدونها لنا وتأكد ذلك بعد الزيارة المثمرة التي أداها رئيس الجمهورية لهذا البلد قبل أيام، والحفاوة التي لمسها من المسؤولين، والاهتمام الذي لقيه من الفاعلين والمستثمرين هناك، وأومن بأنه سيستغل ما أتاحته زيارته من فرص وآفاق في ما بإمكان هذا البلد أن يضعه تحت تصرفنا من وسائل تحديث في المجالات التي ذكرناها، وفي غيرها وخاصة الطاقة المتجددة التي حرص رئيس الجمهورية على الوقوف على الشركات العاملة والمتخصصة فيها.
وحبذا لو انتبهنا لما يمتلكه هذا البلد من مقدرات كبيرة في مجال السكك والقطارات، كوننا بلد شاسع المساحة، ترتفع لدينا تكاليف نقل البضائع والأشخاص، وخلق أقطاب للتنمية تعتمد على المنتجات الحيوانية في مناطق الإنتاج والتصنيع النائية، وتوزيعها على الأسواق وموانئ التصدير، يتطلب وسائل نقل أسرع وأوسع وأكثر أمانا وأقل تكلفة، والقطارات السريعة هي الأنسب لذلك..
ولا ضير عندي في أن نتنازل للصينيين عما يرغبون فيه من ثرواتنا معدنية كانت أو سمكية، مقابل إقامة هذه الإنشاءات وعلى قاعدة " رابح رابح "، مدركا، في الوقت ذاته، ما يحكم ذلك من توازنات دولية، وما قد يلاقيه ذلك من صعوبات يفرضها نفوذ، وتعدد وطول أذرع، و " شين شرك " الشركاء الأوروبيين.. ومدركا كذلك لما يؤخد على الصينيين من اكتفائهم بعمالتهم دون العمالة المحلية في المنشآت التي يتولون تنفيذها، وفعلا فإن ذلك يُعد مأخذا، بل خطرا، لكنه مأخذ وخطر بالنسبة للبلدان التي بها عمالة خبيرة ومدربة على تنفيذ الأشغال والإنشاءات الكبيرة، فهل تلك هي حالتنا؟