من الطبيعي جدا أن نسمع من أهل السياسة كلاما واضحا للتعبير عن موقف ما، أو للتعليق على حدث ما، ومن الطبيعي جدا أن نسمع منهم من بعد ذلك، ومن بعد أن يكونوا قد تبينوا خطورة ما قالوا، نفيا وتكذيبا لماكانوا قد صرحوا به منذ ساعات على الملإ وبصريح وفصيح العبارات.
قد يأتي هذا النفي والتكذيب بصيغ عديدة منها : "أن الكلام كان قد أسيء فهمه"؛ "أن الحديث قد تم تحريفه"؛ "أن المتحدث لم يكن يقصد كذا" ؛ أو أنه ببساطة شديدة لم يكن قد قال كذا مع أنه كان فعلا قد قال كذا.
هكذا عودنا أهل السياسة على أنه بإمكان الشخص أن يقول كلاما واضحا و محددا وبإمكانه بعد ساعات معدودة، وبعد أن يكون قد تبين له خطر ما قال، أن ينفي ذلك الكلام الواضح والمحدد بكلام آخر قد يكون أقل وضوحا وأقل تحديدا.
في هذه الإطار يتنزل نفي وتكذيب عمدة بلدية أطار لما كان قد طالب به في قصر المؤتمرات في "اللقاء التشاوري" حيث طالب بعدم ترشح الرئيس لمأمورية ثالثة وبضرورة اكتفائه بإكمال مأموريته الثانية، وقد أًعجِب الكثير من بسطاء الموالاة ومن أبريائها بهذا الكلام بينما ظهر استياء وتذمر في صفوف كل أولئك الذين لا يمكننا أن نصنفهم ـ بأي حال من الأحوال ـ في زمرة بسطاء الموالاة، ولا في زمرة أبريائها.
اعتقد العمدة لدقائق معدودة بأنه كان قد تحدث في الكلام المباح، وربما يكون تحمُّس أبرياء الموالاة وبسطائها لحديثه، وتصفيقهم له، قد زاده اطمئنانا وارتياحا لما قال من كلام. ولكن المشكلة أن العمدة ما كاد يخرج من قصر المؤتمرات حتى تبين له ـ أو بُيِّن له على الأصح ـ بأن حديثه عن ضرورة اكتفاء الرئيس عزيز بمأموريته الثانية لم يكن حديثا مرحبا به عند كبار القوم في الموالاة، بل إنه كان حديثا مزعجا، ويدخل في دائرة الحديث في الممنوع والمحظور.
لم يكن من عمدة أطار من بعدما بُيِّن له أنه تحدث في الممنوع إلا أن سارع إلى نفي ما كان قد قاله سابقا في قصر المؤتمرات، وبطبيعة الحال، فإن ذلك، وكما أشرنا سابقا يعد في تقاليد أهل السياسة وفي أعرافهم بالأمر الطبيعي جدا، ولكن الشيء الذي جعلنا نتوقف عند هذا "التصرف الطبيعي" هو أنه قد أصبح من الملاحظ في الفترة الأخيرة بأن هناك إجماعا واتفاقا غير معلن في صفوف الموالاة، وأن هذا الاتفاق غير المعلن يحظر على قادة الموالاة الخوض في قضية المأمورية الثالثة، ولذلك فقد كان من اللازم أن يسارع عمدة أطار إلى نفي كلامه الذي كان قد خرج به عن إجماع الموالاة، وعن اتفاقها غير المعلن، والذي يمنع الخوض في قضية تعديل الدستور والمأمورية الثالثة.
يمكنكم أن تلاحظوا بأنه، وباستثناء عمدة بلدية أطار، فلا أحد من قادة الموالاة قد استطاع أن يقول علنا أو في ملأ بأن الرئيس لن يترشح لمأمورية ثالثة، أو بأنه لن يكون هناك أي تعديل للدستور..طبعا هم لا يقولون بأن الرئيس سيترشح لمأمورية ثالثة، ولا يقولون بأنه سيكون هناك أي تعديل للدستور، ولكنهم في نفس الوقت لا يستطيعون أن يتجرؤوا على التعهد علنا بأن الرئيس لن يترشح لمأمورية ثالثة، ولا بأن الدستور لن يتم تعديله.
من قبل تراجع العمدة عن "زلة لسانه"، ومن قبل نفيه لما كان قد صرح به، فسنجد بأن النائب "الخليل ولد الطيب"، وهو من نواب الأغلبية الفطنين، كان قد رفض ـ وبشكل حاسم ـ أن يخوض في مثل هذا الموضوع لما تمت استضافته في آخر حلقة من حلقات برنامج "في الصميم" الذي تبثه قناة "المرابطون". ومن قبل النائب "الخليل ولد الطيب" كان رئيس الحزب الحاكم قد رفض هو أيضا الخوض في الحديث عن تعديل الدستور وعن المأمورية الثالثة، ومن قبل هؤلاء جميعا كان الرئيس عزيز نفسه قد تجنب ـ وفي مؤتمرين صحفيين متتاليين ـ الحديث عن الموضوع، وقد رفض أن يصرح علنا بأنه لا يفكر في تعديل الدستور، ولا في مأمورية ثالثة.
إن رفض الرئيس لإعطاء أي تعهد صريح وواضح في قضية تعديل الدستور وفي مسألة الترشح لمأمورية ثالثة هو الذي جعل كبار داعميه ممن يحسنون فهم "التعليمات النيرة الصامتة" يرفضون الخوض في مثل هذه المحظورات.
إن رفض كبار القوم في الموالاة الخوض في قضية تعديل الدستور والمأمورية الثالثة، وإصرارهم على عدم إعطاء أي تعهد علني وصريح بعدم تعديل الدستور، وبعدم ترشح الرئيس لمأمورية ثالثة لهو أقوى دليل على أن الرئيس يفكر بجد في تعديل الدستور وفي مأمورية ثالثة، وبأنه لا ينتظر إلا حلول اللحظة المناسبة للإعلان عن ذلك. وعندما تأتي اللحظة المناسبة التي ستتم فيها المطالبة بتعديل الدستور وبترشح الرئيس لمأمورية ثالثة فسيكون بإمكان كبار الداعمين أن يصفقوا لتلك الدعوة وأن يطبلوا لها وأن يؤسسوا المبادرات الداعمة لها، ويكفيهم فخرا أنهم كانوا قد استطاعوا أن يتجنبوا الخوض في مثل هذه الأمور في الفترة التي سبقت حلول تلك اللحظة المناسبة التي سيعلن فيها عن المطالبة بتعديل الدستور وبالترشح لمأمورية ثالثة.
وإن صح أن القوم يفكرون بجد في مأمورية ثالثة وفي تعديل الدستور فإن ذلك سيبقى أيضا هو أقوى دليل على قرب زوال ملكهم.
حفظ الله موريتانيا..