البعوض دائما.. / محمدو ولد البخاري عابدين

لن نقلع أو نمل الحديث عن البعوض، إلى أن يمل أو يقلع البعوض عن لدغنا وإزعاجنا وحقننا بالطفيليات.. والحمد لله، فقط اعترفت السلطات بأن انتشار البعوض أصبح يشكل وضعا مقلقا، فأن تعترف بواقعك، فذلك أولى الخطوات نحو تغيير ذلك الواقع إذا توفرت الإرادة..
فقد تحدث البيان الصادر عن مجلس الوزراء بهذا الخصوص عن

" الأسباب المناخية والبيئية لموجة انتشار البعوض المتفاقمة في بلادنا، وخاصة على مستوى مدينة نواكشوط، كما يبرز البيان النواقص الملاحظة في أساليب التدخل، وحملات المكافحة المقام بها من لدن السلطات العمومية في كبريات مدن البلاد، واقتراح جملة من الإجراءات على المدى القصير والمتوسط والطويل للبحث عن حل دائم لهذه المشكلة بما يضمن حماية صحة المواطنين".
هناك إذن نواقص ملاحظة في أساليب التدخل وحملات المكافحة المقام بها من لدن السلطات العمومية في كبريات مدن البلاد، وهذا عادي جدا ومتوقع بالنسبة لعملية هي الأولى من نوعها، لمكافحة آفة توفرت الظروف المناخية والبيئية لانتشارها بشكل غير مسبوق، والهدف والممكن والمطلوب، قد لا يكون القضاء عليها نهائيا، وإنما الحد من انتشارها بأقصى ما يمكن..
وبالإضافة إلى النواقص التي سيكون القائمون على عمليات المكافحة قد سجلوها، فإن من هذه النواقص ما لاحظناه نحن الذين لسنا قيمين على عمليات المكافحة، ولسنا ضمن الفرق التي تقوم بها. ومن تلك النواقص مثلا محدودية السيارات والفرق التي تقوم بعمليات الرش بالنسبة لحجم المدينة، وكثرة مواقع تجمع المستنقعات بها، وما يطرحه تعدد الجهات الشريكة في هذه العملية من تداخل صلاحيات وتضارب قرارات وتعليمات.. 
ومنها أيضا القيام بعمليات الرش على غير مسح مسبق وخطة محكمة، فالملاحظ أن ذروة انتشار ومهاجمة البعوض في العاصمة، تبدأ بمجرد غروب الشمس ولمدة ساعة، ثم تبدأ في الانحسار نسبيا وذلك في أماكن محددة من المدينة أكثر من غيرها، وبدل أن تكون عمليات الرش مكثفة ومركزة في هذا التوقيت، وفي هذه الأماكن، للقضاء على أكبر قدر من البعوض المنتشر في الجو، نجد أنها لا تبدأ إلا في حدود الساعة التاسعة وأحيانا بعد ذلك. وما ذلك إلا لغياب خطة مدروسة تتم على ضوئها عمليات الرش الفعال!
من هذه النواقص كذلك النقص في، إن لم يكن غياب للرقابة على الفرق المكلفة بالعملية، فالكثير من هذه الفرق ما يهمه هو العودة إلى مكان الانطلاقة وقد أفرغ حاويات المبيد المستخدم في الرش، لكن أين أفرغها ومتى وكيف؟ فذلك ما لا توجد مؤشرات على رقابته، وهو ما لاحظناه من عشوائية عمل هذه الفرق، وظهور أطقمها أحيانا وكأنها " تلهوا" ولا تقوم بعملية تتطلب الدقة والشمولية والإتقان..!
هذا بالإضافة إلى غياب إخبار المواطنين وتحسيسهم حول هذه العملية وطبيعتها، وتدابير السلامة اللازمة حيالها، وإجبارهم بأية طريقة ليكونوا جزء من العملية. وأخشى أن يكون هناك غياب للفحص والتأكد من نوعيات وصلاحية المبيدات المستخدمة فيها، وعدم التكلف عناء البحث عن، واستجلاب مبيدات أخرى قد تكون أكثر فعالية وأمانا، فقط مبيدات كانت في المخازن فهيا استخدموها في مكافحة البعوض..! وأقول  إنني أخشى فقط لأن الأمر قد يكون ليس كذلك..
ندرك أن التحرك على المدى القريب الذى تحدث عنه البيان، هو المتابعة في عمليات الرش بهذه الطريقة، وعلى هذا المستوى، وذلك بحكم أنه لم يكن هناك جهاز تنفيذ أواستراتيجية مرسومة بآلياتها ووسائلها للتصدي لهذا الوضع الطارئ والمتفاقم.. لكننا نرجوا أن يكون التحرك على المديين المتوسط والطويل الوارد في البيان أيضا،هو استحداث مرصد مختص بهذا المجال، لا يكون أقل شأنا ولا ومكانة من المركز الوطني لمكافحة الجراد الصحراوي، ويكون بنفس جديته ويقظته في البحث والرصد والاستكشاف، وجاهزيتة للتدخل والاستباق، واستقلاليته من حيث كفاية الوسائل وحرية المبادرة بالتحرك عند الاقتضاء، بدل عمليات مكافحة مؤقتة تتداخل في تنفيذها أكثر من جهة وقطاع، ولا تقوم إلا بعد أن يتفاقم الوضع وتتعالى صيحات المتضررين!
صحيح أن آفة الجراد آفة ماحقة، وسبق أن غضب الله بها على بعض الأمم.. لكن خطر الجراد هو على الزرع والكلأ، وكلاهما خُلقا لخدمة وإسعاد الإنسان الذي لن يسعد مع آفة البعوض بما تطرحه من تحديات صحية جسيمة، فمنذ فترة من الزمن والأعداد الأكبر على لوائح الاستشارات الطبية في مستشفياتنا ومراكزنا الصحية هي لمصابين بالملاريا، ولا علم لي بتراجع لهذه الأرقام، رغم ما قمنا به من حملات ضد هذا الوباء، وما وفرناه من مجانية أدويته، وما وزعناه من ناموسيات مشبعة للحماية من البعوض الناقل له، وما ذلك إلا لأننا اكتفينا بالتعامل مع الأعراض تاركين الأسباب.. ومن المستبعد أن تتراجع الإصابات بهذا الوباء دون القضاء على مسبباته، ومسببات الوباء الأشد منه وطأة، وإن كان غير قاتل مثله، وهو الحمى التي دخلت بلاد منذ السنة الماضية، أو الحد من تلك المسببات إلى الحدود الدنيا.
فلن نمل أو نقلع عن الحديث عن خطر البعوض أيضا، حتى تقلع المصالح الصحية عن الاكتفاء بالحديث عن ضرورة النوم تحت الناموسيات المشبعة كبلسم وحيد، وتقتنع أن الطفيليات التي ينقلها البعوض، سواء كانت ملاريا أو حمى ضنك أو غيرها، يمكنه أن ينقلها لأفراد أسرة في بيتهم في أول الليل قبل موعد النوم، أو لصاحب حانوت يبيع في حانوته، أولشخص أو أشخاص واقفين على قارعة الطريق ينتظرون سيارة أجرة، أو لأطباء مداومون يقدمون الخدمات للمرضى في المستشفيات، أو لرواد مساجد، أو أشخاص في بيتهم نهارا، إذ لم يعد هناك فرق كبير بين انتشار ومهاجمة البعوض أثناء الليل أو النهار.. وفي هذه الأوضاع لا يمكن للشخص أن يظل " متشرنقا " في ناموسية مشبعة يتحرك ويعمل ويبيع ويشتري ويصلي ويأكل تحتها!
فمن يريد أخذ الأمر بجد فأمامه حل واحد وليس حلان، وهو مكافحة البعوض بنفس طويل ووسائل ناجعة، بحرمانه من أقصى ما يمكن حرمانه منه من ظروف تكاثر وانتشار، والاستعانة في ذلك بتجارب وخبرات الغير. وبذلك سيختصر الطريق، ويستغني عن الإنفاق على الأدوية والناموسيات المشبعة، وعندها فقط ستتراجع أعداد المصابين بالطفيليات المنقولة بالبعوض في المناطق التي يمكن فيها الحد من انتشار البعوض على الأقل. أما " محفوظة " النوم تحت الناموسيات المشبعة، فهذه قد حفظناها، وحياتنا ليست كلها نوما وسباتا..

3. أكتوبر 2015 - 18:00

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا