’’بعد الاستماع إلى الخطاب الذي أذيع بالكامل ترسّخت قناعتي بأنّ على عبد الله بن بيه – الذي أصبح ذكاؤه وسرعة بديهته واتساع ثقافته معروفين على نطاق واسع – أن يلعب دورا متميّزا في البناء الوطني وخصوصا في المجال الثقافي‘‘. الرئيس المختار ولد محمدن ولد داداه.
إنّ مظاهر النبوغ التي بدت للرئيس - الراحل -
المختار في شخصية الشيخ العلّامة عبد الله بن محفوظ ولد بيّه لتجعل غيره يقع في حرج شديد بأيّ جانب من حياته يبدأ! أمن جانبها السياسي الذي بدأ مع ميلاد الدولة الموريتانية الحديثة أم جانبها العلمي الذي بدأ قبل ذلك؟
لقد تربى الشيخ عبد الله بن بيه كغيره من أبناء جيله - خصوصا الزوايا - في الحرص على العلم والتعلُّم كأداة يلزم النظام الاجتماعي العرفي في موريتانيا - حينها – بها هذا فضلا عن مكانة والده كشيخ تربية، الأمر الذي يحتّم عليه الاهتمام بأبنائه، ولا يعني هذا عدم اهتمام الآخرين بأبنائهم في ذلك الجيل.
تلقى تعليمه المحظري في محاظر الشرق الموريتاني ونهل منها، وبعد أن قطع شأوا تزامن هذا مع أوّل مسابقة للقضاة المبتعثين إلى تونس من أجل إعداد كادر علمي يتولى إدارة شؤون القضاء ونحوه، وكان رفقاؤه - حينها - العلّامة محمد سالم ولد عبد الودود، وحمدا ولد التاه، ومحمد ولد أبو مدين، وسيد أحمد ولد أحمد الهادي، وعبد الله سالم ولد يحظيه، وأحمد ولد أحمد المختار عليهم جميعا رحمة الله.
بعد رجوع الشيخ بدأ مشواره الوظيفي والسياسي في آن واحد، حيث تنقّل بين وزارة العدل ووزارة الشؤون الإسلامية - كأوّل وزير - ثم وزيرا للتعليم الأساسي ووزيرا للمصادر البشرية وأمينا عاما لحزب الشعب - الحزب السياسي الوحيد حينها - مما أتاح له معرفة ودراية بالسياسة وشؤونها، وكان يلقى ترحيبا من قبل الرئيس المؤسّس للدولة الموريتانية المختار ولد داداه.
من جهة ثانية حضور الشيخ في القضايا الدولية لم يكن حديثا طارئا - كما هو حال الكثيرين ممن يعيبون عليه ذلك - فقد شارك في المؤتمر التأسيسي لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة، وشارك أيضا في مؤتمرها الأوّل حول قضية احتراق المسجد الأقصى سنة 1969م من قبل الصهاينة، كما شارك في مؤتمر منظمة عدم الانحياز، وعلاقته بالزعماء والملوك ليست حديثة، فقد كان المحرّك الفعلي لزيارة الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود إلى موريتانيا، وكانت له لقاءات مع الملك خالد والملك فهد والملك عبد الله - عليهم رحمة الله - وهكذا حكّام الإمارات العربية المتحدة والمملكتين المغربية والهاشمية.
في الجانب العلمي لم يكن الشيخ شخصا يعيش بعيدا عن الواقع، بل كانت أغلب مشاركاته العلمية تصبُّ في فقه الواقع ومتغيّراته بنظرته المقاصدية - الرصينة - التي طبعت كلّ مواقفه العلمية، وخير مثال على ذلك مؤلّفاته والتي من بينها كتابه " تنبيه المراجع على تأصيل فقه الواقع" وقد صبغ هذا الكتاب بلغة أصولية تنطلق من تحقيق المناط وتنقيحه وتخريجه في قضايا عصرنا / الواقع مفهومه ومتغيّرته، مسألة الحدود وتطبيق الشريعة، كما أنّ دوره الريادي في إقناع الآخر/ الكافر، جعل الكثير من مسلمي أوروبا وآمريكا يجدون أنفسهم مضطرين إلى التعايش مع واقعهم - كضرورة - مع إبراز المثل الأخلاقية العليا التي يتحلّى بها الإسلام - كدين عالمي - الأمر الذي جعل الصورة النمطية السائدة/ فوبيا الإسلام في المجتمعات الغربية تتغيّر شيئا فشيئا على الأقل لدى الساسة الغربيين الذين احتكّ بهم الشيخ والتقى بهم في أكثر من مناسبة. كما أنّ المركز العلمي الذي أقامه في المملكة المتحدة/ مركز التجديد والترشيد الفكري، لعب دورا محوريا ساهم في القضاء على ظاهرة الإرهاب الناتجة عن عجز علمي في المواءمة بين الواقع ومتغيّراته الدولية والمستوى العلمي للناشئة.
إنّ ظهور الشيخ عبد الله بن بيه كان قبل ميلاد الحركات الإسلامية - المعاصرة - باستثناء طور التشكل والنمو الذي كانت تعيشه حركة الإخوان في العقد السادس من القرن العشرين في الوقت الذي كانت تعيش حربا سياسية مع جمال عبد الناصر وأزلامه من القوميين/ جناح روسيا، في حين كانت موريتانيا بعيدة كلّ البعد عن المشرق العربي ومؤثّراته الإديولوجية التي اكتسحت الساحة فيما بعد مما أتاح له حصانة ثقافية وفكرية جعلته يقيس الأمور بنظائرها ويلحق الفرع بأصله دون أن يرتمي في أحضان اليمين أو اليسار الإسلامي، متشبثا بالسير خلف رؤية الماوردي وابن تيمية في الفقه السلطاني دون منازعة للأمر أهله.
ثم إنّ الحضور القوي الذي حظي الشيخ ابن بيه به في المحافل الدولية جعل الكثير من منتسبي اليسار الإسلامي/ جناح عدنان إبراهيم، يجدون حرجا في أنفسهم وضغينة بدت في خرجاتهم الإعلامية / محمد المختار ولد سيدي مولود، والتي بدت وكأنّها ردّة فعل عكسية على موقف الشيخ تجاه الربيع العربي، الأمر الذي جعل الشيخ ينسحب من الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين/ جناح قطر، فارا بنفسه من دماء المسلمين يوم القيامة، الذين يقتلون في تونس ومصر وليبيا وسوريا اعتمادا على فتاوى خرجت من رحم هذا الاتحاد والتي وجد حلف النيتو فيها ضالته.
لكن ما يلاحظ على هذا التبريري أنّ مسلك النقض يبطل جميع الحجج التي تبجّح في تويتر ودافع عنها همج من الرعاء - غلبت عاطفتهم عقولهم - يدورون مع الريح حيث دارت، لاهم ناصروا الحقّ ولا هم سكتوا عن الباطل.
إنّ الشيخ ابن بيه ينطلق من ثنائية العلاقة بين الواقع والممكن، فهو كرّس نفسه لخدمة المسلمين عبر جهده الخاص ومكانته بين الزعماء، دون أن يحمّل نفسه أعباء واقع يفوقه تعقيدا وتداخلا، بخلاف الذين يحمّلون أنفسهم أعباء العالم ومشاكله دون أن يقدّموا لآلاف الفقراء والمعدمين والمضطهدين شيئا ملموسا في الوقت الذي يتهجّمون على أيّ داعية نذر نفسه لخدمة الإسلام والمسلمين.
في قمّة الأمم المتحدة أتيحت الفرصة للشيخ ابن بيه للحديث عن دوره في السّلم فقط، دون أن يتكلّم خارج فضائه - كما يريد الرعاء - وأبدى موقفه بقوله ’’ وظيفة رجال الدين إطفاء الحريق في القلوب والنفوس لأنّ الحريق لا يشبُّ في البيوت إلا بعد أن تشتعل القلوب والنفوس ‘‘، وهذا موقف سليم لا أعتقد أنّ صاحب عقلي سوي يعترض عليه في هذا، ويبدي بعضهم اعتراضا على عدم استهجانه للظلم الذي يخرج من تحت سقف أكبر منظّمة عالمية تشرّع الظلم بقراراتها الأحادية التي تفرضها القوى العظمى على شعوب العالم الثالث، لكن من يدري أنّ الشيخ يرضى عن هذا الظلم أو ساهم فيه؟ فقد يكون له موقف أواعتراض – في نفسه – أبلغ صناع القرار العالمي به وليس من حقّه إبداء ذلك للعامّة والدهماء في محفل دولي يتابعه الملايين حول العالم، ويكفيه أنّه أبلغ العالم بأنّ الإسلام دين سلام ورحمة وأنّ تصرُّفات بعض المنتسبين إليه - الشوهاء - لا تعبّر عنه.
إنّ وقوف بعض الظلمة والقتلة حول العالم وراء الشيخ عبد الله بن بيه وارتماؤهم في أحضانه لا يجعلنا نأخذ موقفا معاديا للشيخ وكأنّه طرفا في النزاع، بل علينا مواجهة الظالمين وإنصاف المظلومين، كما أنّ احتماء اللائكيين به ودفاعهم عنه لا يجعله ذلك راضيا عن موقفهم من الدين ولا يجعل المنصفين يلحقونه بركبهم.
ثم إنّ حديث الشيخ عبد الله بن بيه عن السّلم والسّلام في أكثر من قضية، جعل بعض التنويريين من اليمين الإسلامي، يقفون منه موقفا زاعمين بأنّ الإسلام حتى وإن كان دين سلام فقد أثر عنه العنف في بعض المواقف وأنّى لهم ذلك؟ إذ كيف يجتمع العنف والسلام، والحلم والشدّة/ الأصل في الإسلام الرفق لا العنف وإنّ الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وقد امتدح النبي – صلى الله عليه وسلّم – أشجّ عبد القيس بقوله: ’’إنّ فيك خصلتين يحبُّهما الله ورسوله الحلم والأناة‘‘ وما ذكر القتل في الإسلام قط إلا على سبيل المقابلة والجزاء، وهذا من الأشياء الغائبة عن كثير من المتعطّشين للدماء، الذين لا يعلمون أنّ الإسلام لم يعظم شيئا بعد الشرك بالله مثل الدماء.
إنّ الخطأ في عدم إصدار فتوى تبيح القتل والهدم والدمار وغارات الحروب خير من فتوى تبيح القتل بغير حق، وهذا ما جعل الشيخ عبد الله بن بيه يعتمد في فتاويه على جلب المصلحة ودرء المفسدة، وارتكاب الضرر الخاص بدل الضرر العام، ثم إنّ أمّتنا – اليوم – لا ينقصها المتعطّشون للموت بقدر ما ينقصها الذين يتعطّشون للحياة.
والمتأمّل في حال أكثر الحروب التي تعيشها أمتنا اليوم يلاحظ أنّها ليست حربا لنصرة الله ورسوله بقدر ماهي من أجل إزالة حاكم أو تثبيت محكوم، مما يعني أنّ الاجتهاد في وضع هذا ونفي هذا يبقى أمرا راجعا لأهل الحل والعقد من العلماء، الذين يقدّرون عواقب الأمور، ويدركون الأثر المترتّب على زوال هذا وبقاء ذاك، حتى وإن قلنا - جدلا - بأنّها نصرة للمظلوم وقهرا للظالم فلابدّ من التبيّن في كلا الحالتين والتعقل، إذ من غير المنطقي السعي الجماهيري في إزالة ظالم من أجل الاتيان بمن هو أشدُّ ظلما وأكثر تعطُّشا للدماء.
إنّ الشيخ عبد الله بن بيه قالها دون تورية أو مجاملة، إنّه داعية سلام لا داعية عنف وقتل، داعية رحمة وشفقة لا داعية شدّة وفظاظة، داعية ورود وياسمين لا داعية أكفان وأحزان.
ثمّ ماذا بعد؟ أليس من الأجدر بعد هذا الرقم الفلكي من القتلى والجرحى والمشرّدين والمهجّرين حول العالم من أبناء ليبيا ومصر وسوريا أن يظهر رجل رشيد رافعا بطاقته الحمراء في وجه القتلة قائلا: يجب أن نتوقّف عن الموت لنبدأ الحياة؟
وأخيرا فإنّ فضل أهل الفضل لا يعرفه إلا ذووه، ومكانة الشيخ عبد الله بن بيه لا يعرفها غير العلماء المنصفين - الذين لا تحرّكهم الإغراءات والحظوظ النفسية - والمتتبع لثنائهم يدرك أنّ الشيخ لم يحصل على ذلك من خلال جمهور ببّغائي تابع حلقة تلفزيونية ساعد المونتاج والإخراج في إضفاء الكثير من التلميعات والتحسينات عليها.
يقول الشيخ يوسف القرضاوي أمدّ الله في عمره: إنّ من نعم الله - تعالى - على الإنسان أن يتعرّف على الرجال الكبار الذين لهم وزنهم العلمي ووزنهم الديني ووزنهم الفكري والسلوكي والإصلاحي، هذه نعمة تستحقُّ الشكر، واعتقد أنّ من فضل الله - تعالى - علي وإحسانه إلي أن عرفت واحدا من العلماء الأفذاذ، الذين قلّ أن يجود الزمن بمثلهم، ألا وهو العلّامة الشيخ عبد الله بن بيه، الذي اشتهر علمه وفضله في الآفاق، وعرفه القاصي والداني، وعرفته منذ سنوات طويلة خلال المؤتمرات والندوات التي شارك فيها بعلمه وفكره وجهده.
وفيه يقول شيخ مشايخنا العلّامة محمد سالم ولد عبد الودود رحمه الله:
يا مرحبا بالشيخ عبد الله
من لا نزال به الشيوخ نباهي
من ذا يضاهي الشيخ في تقواه
في إحسانه في بذله للجاه
في فهمه في فقه في عمقه
في أفقه في عِرفه بالله
فرد يجول الفرد بين صفاته
فيحار بين نظائر أشباه
إن جئت تحصي ما حواه من العلا
ألفيت ذلك ليس بالمتناهي