المُوظفُ العمومي و الموظف العمومي السامي بالأخص هو أحد أهم رموز و عناوين الدولة و يجب عليه أن يكون في حياته العامة تُرْجُمَانًا لهيبتها و كِبْرِيائِهَا و سُلْطَانِها و يَحْرُمُ عليه في حياته الخاصة الوُقُوعُ في شُبُهَاتٍ قد تؤدي إلي المساس و الانتقاص من سَمْتِهِ و عِزَتِهِ و وَقَارِهِ و مكانته
في المجتمع حتي لا يُؤثر ذلك سلبا علي شرف الدولة و "تَفوُقِهَا" و عَلْيَائِهَا... كما لا يجوز للموظف العمومي السامي مطلقا استغلالُ مكانته المعنوية الوظيفية في أي نوع من أنواع التسويق و الدعاية الفكرية أو السياسية مما تفوح منه رائحة صِنْفٍ م من صنوف "جَعْلِ الأغلال" في أعناق حرية التعبير.
و إلي هذه المعاني تتقاطعُ تعريفاتُ واجب التحفظ المطلوب من كبار الموظفين لدي العديد من التشريعات و النظم حيث تُعَرٍفُ الأعمالُ الإداريةُ الفرنسيةُ واجبَ التحفظ بأنه " تحريم استخدام الموظف العمومي لوظيفته كأداة لأية دعاية كانت..." كما يعرف القانون الموريتاني واجب التحفظ "(...)بالحياد و عدم الانحياز و النأي أثناء مزاولة المهام و في الحياة الخاصة عن مواطن الشبهات التي قد تَخْدِشُ شرف الدولة".
و في موريتانيا تُهْمَلُ و تُغْفَلُ الجوانب المضيئة لواجب التحفظ le Devoir de Reserve و لا ينظر إليه إلا من زاوية التضييق و التعسير علي حرية التفكير و التعبير من خلال استخدامه فَزًاعَة و "سَيْفَ داموقليس" Epee de Damocles-Sword Of Damocles مُسلطا علي رقاب كبار الموظفين السامين و يشكل عِقَالاً لمواهبهم و إبعادا لهم و تَخْوِيفًا من المساهمة في إثراء النقاش العام حول أمهات مستجدات القضايا الوطنية؛ و من المعروف أن الوظيفة العمومية العليا هي خَزًانُ و مُستودَعَ الكفاءات الوطنية العالية و " إِخْرَاسُهَا" يعني ترك مهام " توجيه و ترشيد الشأن العام" لغير الموظفين السامين ممن قد لا يحوزون جميع عناصر الأهلية من كفاءة و قوة و أمانة....
و المتابِعُ للمشهد العلمي و الفكري و الثقافي و الفني بالبلد مُلاَحِظٌ دون كبير إعمال ذكاء و لا جَهْدِ عناء جَفَافًا و بَوَارًا و غيابا مطلقا لمبادرات و إبداعات و إسهامات جماعات كبيرة من أصحاب المواهب و الكفاءات العلمية و الثقافية و الفنية النادرة المعروفة بأسمائها و وُسُومِهَا الذين أسكتهم الانتسابُ إلي الوظائف العمومية العليا امتثالا لغُلُوٍ عقيم و فهم سقيم لمبدإ " واجب التحفظ" الذي أضحي أشبه "بواجب الصمت" و "الصومِ عن الكلام المباح" في الشأن العام؛ و من الموظفين السامين من يجدُ في ذلك مَنادِحَ عن إنتاج أفكار علمية و إبداء آراء فنية قد تكون |"مُعَاكِسَةً للتيار" و "غيرَ مُنْضَبِطَةٍ" مع "للتعليمات" و "التوجيهات" العامة.
و يُرْجِعُ أَغْلَبُ المتابعين المُنْشَغِلِينَ بدراسة الغلو في واجب التحفظ في التفكير و التعبير المفروض علي كبار الموظفين ببلادنا تلك الظاهرة إلي جملة عوامل منها:-
أولا:- طُغْيَانُ رواسب الحكم العسكري الاستثنائي": من المعلوم أن العقيدة العسكرية قائمة علي الانضباط و "التحفظ التام الأصم" الذي منه ما هو منصوصٌ عليه حرفا في القوانين و اللوائح الناظمة للمؤسسة العسكرية و منه ما هو تقاليدٌ و أعرافٌ عسكريةٌ تَحُوزُ نفس قوة القوانين أو هي أَعَزُ و أَعْتَي و بلغ من أمر ذلك أن سُمِيًتْ المؤسسة العسكرية مملكة الصمت أو "الصُمَاتُ الأكبرُ". La Grande Muette
و نتيجة للفترة الطويلة للحكم العسكري الاستثنائئ في بلادنا و التي فَرَضَ فيها تطبيقا و عملا واجبَ "التحفظ المُغَلًظِ "علي كبار الموظفين المدنيين فلا زالت رواسب تلك التجربة حاضرة بشكل قوي في ذهنية و تقاليد الإدارة الموريتانية العليا و أحيانا لدي " السلوك اللاإرادي" للموظف العمومي السامي.
ثانيا:- هشاشةُ و "كِلْيَانِيًةُ" "بورصة الوظائف السامية ": يري بعضُ المحللين أن الغلو في واجب التحفظ عائد إلي هشاشة و"كَلْيَانِيًةَ" بورصة الوظائف السامية و تَغَوُلِ جيوش " المُوردين للأخبار" و خوف الموظفين السامين من إنتاج أفكار أو إبداء أراء قد يُسارع أعداء الفكر و الرأي من العاجزين عن الأفكار الممونين بالأخبار إلي تحريفها و تفسيرها تفسيرا يتناقض مع ا"لتوجهات الكبري" فيؤدي ذلك إلي التنحية من المأموريات السامية و فقدان الامتيازات المادية و المعنوية العالية.
و من الشواهد علي هذا النوع من " التًقِيًةِ السياسية و الإدارية" ما حدثني به من أثق في عقله و نقله من أن أحد أبرز و أكفإ الأطر العاملين الآن أمضي سنين عددا في الهيئة القيادية لحزبه دون أنُ يَنْبُسَ بِبِنْتِ شَفَةٍ لا أثناء و لا خارج دورات الهيئة القيادية للحزب فلما عاتبه بعض خُلًصِهِ علي ذلك مُسْتَظْهِرِينَ بأن الحزب شركةُ رأي و من لم يُبْدِ آَرَاءَ كمن لم يُحَرِرْ أَسْهُمًا أجابهم بأنه في هذا البلد لا أحد يُحاسبك أو يُلاحظ عليك العجز أو التخاذل عن الرأي بينما رأيُك و موقفُك مُشَوًهَانِ و مُحَرًفانِ لا محالة و أنت مُعَاتَبُ و مُعَاَقٌب عاجلا أو آجلا و لو اجتهدت و نصحتَ و أخلصتَ و بالتالي فإنه في "موريتانيا السياسية" التقية و الإفلاس غالبا سلامة و الرأي الصادق و الكفاءة أحيانا ندامة!!!.
و لعلاج ما هو مُلاحظٌ ببلادنا من ظاهرة الغلو في التطبيق العملي الإرادي و اللاإرادي لواجب التحفظ المُسلط علي الموظفين السامين ففي تقديري أَبْلَجِ و مَأْلُوفِ التواضع أنه تتعينُ مراجعةُ مواد القانون المنشئ للنظام الأساسي للموظفين العموميين و وكلاء الدولة المخصصة لواجب التحفظ علي الموظفين السامين من أجل مزيد من توضيح تعريف واجب التحفظ توضيحا يُعزز الرمزية الوطنية السامية للموظف العمومي و يُغلظ واجبات الحفاظ علي هيبة و كبرياء و سلطان الدولة ويخفف الأغلال المفروضة علي حرية التعبير لدي الموظفين السامين و يُزيل جميع رواسب الحكم العسكري الاستثنائي في هذا المجال و يُنْشِطُ المواهب المُصَفًدَةَ للعديد من نبهاء الموظفين السامين من عُقُلِهَا...