ألف الإمام جلال الدين السيوطي رسالة قيمة بعنوان : " تنزيه الأنبياء عن تسفيه الأغبياء" ؛ بين فيها خطورة ضرب المثل بالأنبياء في الأمور الجائزة إذا وقع خارج سياق التعظيم والتوقير والاقتداء، بل على سبيل الاحتجاج الشخصي ودفع الحرج؛ كقول القائل : " إن قيل في السوء فقد قيل في الأنبياء" ؛ وقول المتنبي:
أنا في أمة تداركها اللــ ** ـه غريب كصالح في ثمود
وذلك لما فيه من امتهان أسمائهم الشريفة والاحتجاج بأحوالهم السنية في سياق غير مناسب .
وقد جوّد القاضي عياض في الشفاء الكلام في هذا المبحث - وعليه اعتمد السيوطي وغيره - وهذا نص كلامه:
" الوجه الخامس : أن لا يقصد نقصاً ولا يذكر عيباً ولا سباً ولكنه ينزع بذكر بعض أوصافه وأحواله الجائزة عليه في الدين على طريق ضرب المثل والحجة لنفسه أو لغيره، أو على التشبه به أو عند هضيمة نالته أو غضاضة لحقته ، ليس على طريق التأسي ... بل على قصد الترفيع لنفسه أو غيره ، أو على سبيل التمثيل وعدم التوقير لنبيه عليه الصلاة والسلام أو قصد الهزل والتندير بقوله : كقول القائل إن قيل : في السوء فقد قيل في النبي صلى الله عليه وسلم ... فإن هذا وإن لم يتضمن سباً ولا أضاف إلى الملائكة والأنبياء نقصاً ، فما وقر النبوة ، ولا عظم الرسالة ، ولا عزر حرمة الاصطفاء ، ولا عزز حظوة الكرامة ، حتى شبه من شبه في كرامة نالها أو معرة قصد الانتفاء منها ونهى عن جهر القول له ورفع الصوت عنده ؛ فحق هذا إن درئ عنه القتل: الأدب والسجن وقوة تعزيره بحسب شنعة مقاله ومقتضى قبح ما نطق به ومألوف عادته لمثله أو ندوره وقرينة كلامه أو ندمه على ما سبق منه." إهـ كلامه باختصار ( الشفاء 2\238 ط دار الفكر) .
وضرب المثل بالأنبياء الذي تكلم عليه القاضي عياض، يشمل الاحتجاج والمبالغة والتمثيل... وهو الجاري على السنة فصحاء العرب وأعلام السلف فربما سموا القياس ضرب مثل.
وقد نهى الله تعلى أن تضرب له الأمثال ودلت الأدلة على النهي عن ضرب المثل بأنبيائه الكرام. قال القرطبي في تفسير قوله تعلى: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} " أي الأمثال التي توجب الأشباه والنقائص؛ أي لا تضربوا لله مثلا يقتضي نقصا وتشبيها بالخلق. والمثل الأعلى وصفه بما لا شبيه له ولا نظير، جل وتعالى"(تفسير القرطبي 10\119 ).
رضي الله عن الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز فقد غضب غضبا شديدا على كاتبه لما ضرب المثل بالنبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذا وقال له : " ما وجدت مثلا غير النبي صلى الله عليه وسلم !" وعزله عن الدواوين.
وروى سعيد بن منصور في سننه عن إبراهيم النخعي قال : " كانوا - يعني الصحابة والتابعين - يكرهون أن يتناولوا شيئا من القرآن عندما يعرض من أحاديث الدنيا"؛ قيل لهشيم - وهو أحد رواة الأثر - : نحو قوله (جئت على قدر يا موسى) ؟ قال نعم. (سنن سعيد بن منصور 2\318)) .
وقال الإمام فخر الدين الرازي في تفسير قوله تعلى : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ): " فائدة ذكر الاسم في هذه ه الأية زيادة التعظيم ، لأن من عظم عظيماً وبالغ في تعظيمه لم يذكر اسمه إلا وعظمه ، فلا يذكر اسمه في موضع وضيع ولا على وجه الاتفاق كيفما اتفق ، وذلك لأن من يعظم شخصاً عند حضوره ربما لا يعظمه عند غيبته فيذكره باسم علمه ، فإن كان بمحضر منه لا يقول ذلك ، فإذا عظم عنده لا يذكره في حضوره وغيبته إلا بأوصاف العظمة. " (مفاتيح الغيب 15\179 ).
وقد يجترئ بعض الكتاب المعاصرين على أشياء من هذا القبيل؛ فتراهم يهيمون في أودية الضلال طلبا للتنكيت و" التگراح" المتكلف وإيغالا في المبالغة والتفاصح ؛ مع أن الشاعر والبليغ المصقع لا يعجزه أن يجد أوداء يهيم فيها من غير أن يقترف مثل هذا الإثم كما قال أخونا الشيخ محمد بن محمدي –بار الله فيه - في تدوينة له في الموضوع .
أورد بعض الكتاب هذه الآية الكريمة في شأن من منع سماع الغناء : (وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ)، فكان ذلك الاقتباس مخالفا لسبيل الأدب فضلا عما يوهمه من حمل الآية على غير محملها !
وجاء بعض الكتاب بعبارة من هذا القبيل فذكر في سياق التهوين من بعض مخالفيه إنهم ربما ينظرون إليه على أنه " نكرة لو كان شيء يخفى على خالقه لكان إياه ". وهذه زلة لسان - عفا الله عنها - ليست دون قول القائل: " لو سبني ملك لسببته"، التي ذكرها خليل فيما يؤدب قائله...
ومثل وإن كان خارجا مخرج المبالغة ؛ ومع أنه قضية شرطية لا تقتضي الوقوع كما يقول علماء المنطق والعربية... فإنه خارج عن طريق الأدب مع الباري سبحانه ومع أنبيائه الكرام؛ فلو قال رجل لملك من الملوك – ولله المثل الأعلى - :" لو أنك كنت حجاما أو راعي غنم لوقع كذا"؛ أو قال له: " لو كنت أعمى..." ونحو ذلك لكان قد أساء عليه الأدب وغمطه حقه وتعرض لسوء عقابه. فمثل هذا اللفظ لا ينفك عن كونه خلاف الأدب والتعظيم الذي أمرنا به.
وأين هذا من قول القاضي عياض المتقدم: " أو ضرب مثل لتطييب مجلسه ، أو إغلاء في وصف لتحسين كلامه بمن عظم الله خطره وشرف قدره والزم توقيره وبره"؟! .
وكما أسلفنا فليست هذه العبارة – أعني قول القائل لو كان شيء يخفى على خالقه ... _ دون قول خليل في باب الردة عاطفا على ما يؤدب قائله: " أو قال : لو سبني ملك لسببته"؛ فقد قال شراحه: إن هذ العبارة يؤدب قائلها لأنه قصد الانتصار لنفسه وبالغ بذكر الملك؛ فكان الأدب متجها إليه لمبالغته؛ وردوا على التتائي الذي في تعليله بأنه قصد التنقيص بالملك وتحقيره، قالوا : لأنه لو قصد ذلك لحُكم بردته،(لوامع الدرر في شرح المختصر 13\386). فليس مناط الحكم هنا كونه ساوى نفسه بالملك كما توهمه بعض المدونين ! بل المناط ما في كلامه من سوء الأدب والمبالغة الفجة، وهو حاصل في المثال الذي ذكرنا .
وقد يحتج محتج لجواز مثل هذا بقوله صلى الله عليه وسلم: " لو كان شيء يسبق القدر لسبقته العين"؛ فقضية هذا الحديث قضية شرطية تضمنت مبالغة وتمثيلا، بأمر مفترض غير واقع . والجواب من ثلاثة أوجه:
1 - أن لفظ الحديث خرج مخرج التعليم والبيان إذ القصد التحذير من العين وبيان خطرها؛ وقد نص العلماء على أن مثل هذا يقتصر فيه على سياق التعليم والبيان كما قالوه في ضرب المثل بالأنبياء وغيره، فإنه يقتصر فيه على سياق التعليم، وشتان ما بين سياق التعليم والبيان وبين سياق التقعر والتفاصح !!
2- أن ما توهمه من مطابقة ما في الحديث لتلك الكلمة غير صحيح ، قال الزرقاني في شرح هذا الحديث: " قال القرطبي هذا مبالغة في تحقيق إصابة العين جرى مجرى التمثيل إذ لا يرد القدر شيء فإنه عبارة عن سابق علم الله ونفوذ مشيئته ولا راد لأمره ولا معقب لحكمه فهو كقولهم لأطلبنك ولو تحت الثرى ولو صعدت السماء ...وقال البيضاوي معناه أن إصابة العين لها تأثير ولو أمكن أن يعاجل القدر شيء فيؤثر في إفناء شيء وزواله قبل أوانه المقدر لسبقته العين انتهى ( الزرقاني على الموطأ: 4 \411).
فظهر بهذا أن معنى الحديث أنه لو كان لشيء من الأسباب الدنيوية أن يعاجل القدر فيؤثر قبل الوقت المقدر له لكانت العين، ولا يدل هذا على المبالغة بسبق بعض الأشياء لعلم الله كما توهمه بعض الطلبة، كيف والافتراض قائم على اعتبار تأثير العين وهي من خلق الله ولا تصيب إلا بأمره وتقديره ؟!
وقد اعتر بعض الطلبة بقول بعض شراح الحديث: " إنه قد سبق في علم الله وقوع المقدر، ولا راد لذلك"... ففسر القدر بالعلم وبنى عليه ما ذكر، وهو تحكُّمٌ فالقدر أعم من مطلق العلم، وله مراتب كما قال أهل العلم وهي: العلم والكتابة والإرادة والخلق والإيجاد؛ قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: " القدر بوضعه يدل على القدرة وعلى المقدور الكائن بالعلم ويتضمن الإرادة عقلا والقول نقلا وحاصله وجود شيء في وقت وعلى حال بوفق العلم والإرادة والقول (فتح الباري 11\477).
فظهر بهذا أنه ليس في الحديث مبالغة بسبق بعض الأشياء لعلم الباري – تعلى عما يقولون علوا كبيرا – وأن سياقه مؤذن بصرف النظر عن هذا التوهم المُدَّعى، وقد صرفت إرادة المجاز والإغراق في المبالغة عنه‘ خاصة وأنه ليس فيه ذكر لاسم الله العظيم؛ حيث وقعت المبالغة فيه بسبق القدر لا بغير ذلك... فلا وجه للاحتجاج به على مثل هذه الألفاظ الصريحة .
3- لو سلمنا أن مثل هذه الألفاظ الموهمة وارد في النص لم يجز استعماله خارج سياق وروده؛ فقد وقع الإجماع على أنه لا يجوز إطلاق لفظ يوهم نقصا على الله تعلى أو على أحد من رسله عليهم السلام، كما قال العلامة ادييجة الكمليلي – رحمه الله - في منظومةٍ له :
ولم يجز إطلاق لفظ موهم = نقصا على النبي مثل الأسقم .
وحكى غير واحد من العلماء الإجماع العلماء على ذلك (شن الغارات لمحمد بن أبي مدين ً 94).
ومعلوم أن مثل هذه الألفاظ إن صدر ممن هو من أهل العلم والفضل، كان من قبيل زلة اللسان ووجب أن تُقال عثرته لما يعلم من أنه لم يقصد التنقيص ولا الامتهان؛ فلا يناله أدب ولا تشنيع، لكن يبقى واجب النصح والبيان له ولمن سمع كلامه أو قرأه.
هذا نسأل الله أن يوفق الجميع ويهديهم لكل خير