فيما يشير مصطلح المجتمع المدني إلى كل أنواع الأنشطة التطوعية التي تنظمها الجماعة حول مصالح وقيم وأهداف مشتركة تشمل في تنوعها الغاية التي ينخرط فيها المجتمع المدني لتقديم الخدمات، أو دعم التعليم المستقل، أو التأثير الإيجابي على السياسات العامة، فإنها في هذه البلاد تظل تشير
إلى الأهداف المنصبة في مجملها على دنيا تصيبها أو فتنة تشعلها. و هي في مجمل ذلك التوجه لا تختلف كثيرا عن الأحزاب التي تفوق عددا أحزاب القرآن الكريم و ما هي بطهره أو سعته مراقي العدل و الإحسان و حفظ الكيان. سنة من الطمع و تغليب المصالح الأنانية موروثة عن منظومة اجتماعية موغلة في القدم و إن كان ظاهرها التدين و الإتباع، إلا أنها ظلت مشوبة إلى حد الاتساخ الكبير بالظلم الممنهج المضمن قوالب فرضت حتى كانت و لا تزال قواعد لا يجوز المساس بها.
و لما أن المجتمع المدني هو مجموعة واسعة النطاق من المنظمات غير الحكومية و غير الربحية من نقابات عمالية، ومنظمات خيرية، و دينية، ونقابات مهنية، ومؤسسات عمل خيري ميزتها المشتركة التي تجمع بينها كافة وعلى شدة تنوعها تتمثل في الاستقلال عن الحكومة والقطاع الخاص من حيث المبدأ لضمان طابعها الاستقلالي الذي من المفروض أن يسمح لها بأن تعمل على الأرض وتضطلع بدور هام في أي نظام ديمقراطي، هي التي لها وجودٌ في الحياة العامة وتنهض بعبء التعبير عن اهتمامات وقيم أعضائها أو الآخرين، استناداً إلى اعتبارات أخلاقية أو ثقافية أو سياسية أو علمية أو دينية أو خيرية، فإن المجتمع المدني في هذه البلاد عبارة عن شتات من الكيانات الهزيلة التي لا يستجيب معظمها في شكله و تنظيمه و تعاطيه ميدانيا إلى اشتراطات القيم و الأخلاقيات المعمول بها دوليا و و لا ترقى في منهجه و خطابه و فلسفته إلى دائرة الفعل المؤثر.
هذه تونس تضرب مثلا رائعا في سبيل رفعة مجتمعها المدني المخلص للحمة الوطن كما ضربت من قبل المثل الفريد في تصميم ثورة التغيير و طرد الديكتوتارية إلى غير رجعة، من خلال فوز رباعية الحوار الوطني التونسي بجائزة نوبل للسلام نتيجة إسهامها في بناء الديمقراطية بعد ثورة الياسمين عام 2011، و هو الفوزالذي قالت لجنة التسليم أنها تأمل أن يكون منح جائزة السلام هذه مصدر "إلهام" للآخرين.
فهل يكون في مجتمعنا المدني من يروقه الدرس، يستلهم العبر، تستهويه التجربة و تتفتح عيناه فتتكشف له طرق الوطن المغلقة و يسلك فجاج العمل المخلص لانتشاله من براثين العابثين من هواة جمود الوضع و استخدام مؤثرات و أدوات تنويم الضمائر و شل قدرات السعي إلى التغيير تحت يافطة المجتمع المدني ـ النفعي الربحي الغارقة إلى الودجين معظم تجمعاته و نقاباته العمالية و المهنية، ومنظماته الخيرية و الدينية، و مؤسساته للعمل الخيري و الحقوقي ـ ضمن السياسة المواربة التي لا تخلو من رياء و نفاق طبعا كل الحراك السياسي تحت كل الأحكام التسلطية الأحادية و العسكرية منذ الاستقلال؛ الأمر الذي لم تخفف من حدته، المستمدة من عقلية "السيبة" الغالبة على واقع سير البلد شاء الكل أو أبى، تجاهل أو أدرك، الحركات الإيديولوجية التي ظهرت في العالم ثم انتشرت في البلاد بكل مفرداتها و متون أفكارها لتشتت المشتت أكثر و تشكل الخلفية و المتكأ و المبرر للأحكام المتعاقبة.
و لإن لم تكن الآن في هذا الظرف المتسم بالاحتقان السياسي المزمن في البلد جهات وطنية محايدة و مدركة لهذا الواقع ، تتمتع بالشجاعة اللائقة و مفعمة بنية و إرادة تغييره، فإن الحاضنة الوحيدة التي يمكن أن يرى فيها أي تيار تغييري النور و يحمل سمات التحول المبشرة هي وحدها، و بعيدا عن الأطر السياسية التي لا تحسن إلا الاختلاف السلبي و الصراع على الحكم غاية، حاضنة المجتمع المدني إن وفق بعض من فيها و أدرك أنه المرشح لحمل هذا المشعل و إطلاق وساطة محايدة، شريفة و مجردة من الأطماع للخروج من الأزمات التي إن ظلت ستعصف بالبلد الذي يحول ضعفُ المدرك السياسي و حصار الأمية الأبجدية و المدنية و الفقر و التخلف و سلطان ظلم القلة، دون إدراك ما تنطوي عليه من عوامل الاحتقان و مخاطر الانفجار و تداعيات التمزق إذا لم تخرج من رحمها تنظيمات كالتي أخذت بيد التونسيين إلى مدرج السلم الاجتماعي من خلال السعي إلى نجاح الحوار بين الأطراف السياسية التي كانت متصارعة إلى جد القطيعة، من ناحية، و حصد جائزة نوبل التي سلمت في سابقة لأمة بكاملها من خلال المخلصين لثورتها و الأوفياء حتى تكريس مسارها الاستثنائي.