لماذا لا تعقد وزارات البلد، على غرار غالبية مثيلاتها المخلصة الجادة من بلدان العالم في بناء أوطانها، و بما هو مطلوب مهنيا و مستجيب منهجيا لضرورات نجاح مهماتها السامية، اجتماعات دورية مكثفة و تنشر كتيبات عملية و منشورات بيانية منتظمة و أخرى تلخيصية موسمية؟ و لماذا لا تقيم ندوات
علمية تكوينية تواكب المستجدات و ترفع القدرات و تنوع التخصصات، و إعلامية تغطي النشاطات بشفافية قصوى و شاملة؟ و لما لا تنظم معارض نموذجية رفيعة الحبك و دقيقة المغزى تبرز مجالات تدخلها و أخرى للصور التوضيحية و التسجيلية، تسلط كلها الضوء على جوانب مضيئة من أدائها و تبرز ملامح عملها المتواصل و إنجازاتها الهامة و تكشف عن مستوى أداء مهامها الكاملة على كل الأصعدة و ملامسة كل جوانب و مستويات و مسؤوليات القطاع؟
أهي ثقافة "تكتم" القطاعات الحكومية "المُتخلف" على ضعفها وعدم الشفافية في التعامل مع المواطن و القضايا التي تهم الوطن هي التي تحول دون حصول هذا الوجه المشرق، أم هي علامات القصور الإداري و التسييري ما زالت تلقي بظلالها على دائرة "الحكامة" في أجهزة تنفيذها القطاعية؟
لا شك أن المتتبعين لمسار البلد و المهتمين منذ الاستقلال بشؤونه يستغربون على حد سواء من حالة الشلل المثيرة الجاثمة كأنها قدر محتوم لهذا البلد أمام حركة النهضة العالمية من حوله، و مقارنة حتى بالدول المحيطة التي هو جزء منها تاريخيا و جغرافيا، و قد مضى على استقلاله ستة و خمسون عاما، تزيد عشرا أخرى أو أكثر هي بعض عمر إرهاصات ميلا د الدولة المركزية في سان لويس Saint Louis بالسنغالSénégal و من أصداء نقاطه الاستعمارية الكثيرة في العمق من صحرائه المترامية الأطراف، وعلى ضفاف النهر، و مثل ذلك من السنين مضاعف مرات كانت تجري في بحرها و على استحياء بدايات التقارب المفروض مع بروز العلامات و الإشارات الأولى للاحتكاك الخجول و تشكل بوادر الانفتاح من خلال حراك المستعمر القادم من وراء البحار من جهة، و من الممانعين لذلك من أصحاب الأرض على الرغم من إدراكهم له في الصميم و دون نبذ مطلق لحصول البعض منه طلبا للمنافع المادية، من جهة أخرى.
و إنه مما يزيد أيضا استغراب هؤلاء المتتبعين و المهتمين الذين يدركون هذا الوضع بجلاء و ما يتجسد فيه من بُعد أهل البلاد ـ رغم الكم الهائل من المعارف التي حصلها أطرها و مثقفوها و المتعلمين فيها ـ عن الانفتاح و عدم القدرة على الطلاق من رواسب الماضي المقيتة و إرثه الثقيل و العجز عن التحرر من أغلاله، و عن الانطلاق إلى رحاب المدنية و العمران و الحداثة الملائمة لهما، علما بما يحيطها من تجارب ملموسة في هذا الشأن و إن ما تزال بلدانها تعاني بعض النواقص، إلا أنها قد اجتازت حواجز "عقد الاستكبار و النقص" التي كان يذكي جذوتهما ماضي ظلامي في أغلب أوجهه، و عبرت بقوة إلى دائرة فعل التحرك و مُدرك ضرورة الأداء العملي الذي لم يلبث أن أثمر بعد حين أوجها حضارية جديدة متحررة في سياق التمسك بالثوابت، و أسس لقوالب تقدمية غلبت على واقع الجمود الذي كان ينطق به لسان حالها حتى بعيد استقلالها كلها في بحر الستينات تزامنا حتى مع استقلال البلاد من نير نفس المستعمر الفرنسي.. وجه استغراب و تعجب يزيدان صاحبيهما إرباكا عندما لا يجدان تفسيرا مقبولا بأي مستوى أو مسوغ كان لتعارض هذه الوضعية مع قيام حقيقتين بارزتين:
· أولاهما عمق و أهمية و فرادة استراتيجيه موقع هذا البلد على شاطئ أحد أكثر المحيطات نشاطا و أكبرها دورا في ميلاد و إشعاع عديد الحضارات الإنسانية التي من ضمنها حضارات هذه الأرض التي استكشف عمقها "الهولنديون" و "البرتغاليون" و "الأسبان" و "الانكليز" و "الفرنسيون" حتى أن وصل بعضهم مدينة "وادان" ليؤثر في العمارة من خلال الأسوار التي ضربوها على إحدى جهاتها، و البعض الآخر طاف أطراف البلاد و أرجاءها و وصولا إلى ملتقى النهر و المحيط فيها ليؤسس لتجارة الصمغ و النخاسة محطات تبادل (Portendik بورتانديك) ظلت قائمة حتى احتال و استفرد و جثا الاستعمار الفرنسي على كل ربوعها؛
· و ثانيهما ما استكشفه و بدأ استغلاله مبكرا هذا المستعمر الفرنسي من مناجم كثيرة لمعادن متنوعة من حديد في "كديت اجل" و نحاس و ذهب في "أكجوجت" وما يحتضنه شاطئها الأطلسي من ثروة سمكية نادرة لم يمتنع مطلقا عن استغلالها، و من بترول و غاز استخرجت شركات أجنبية عاتية كـ(Wootside) و أخرى ماليزية منهما لحد الساعة ما كان ليمكن يقينا من تشيد أكثر من بلد و إسعاد أضعاف أضعاف سكان موريتانيا فوق أديمها؛ لكنه الأمر الذي انجلت الحقيقة الدامغة المؤلمة عن حدوث عكسه على البلاد و أهلها. شعب قليل فقير و مشتت في مناطق شاسعة لا تربطها ببعضها شبكات طرق مناسبة و لا سكك حديدية استراتيجيه لحمل أدوات و معدات التشييد الثقيلة سرعة و أمانا و ادخارا، و لا شركات ملاحة بحرية وطنية تحمل معادنه و بتروله و منتجاته إلى الأسواق العالمية و نهرية تحمل منتجاته الزراعية و تنقل ثروته الحيوانية، و لا مطارات دولية تسهم في ربطه و العالم ببعضه تعاونا و نقلا و تأجيرا، و لا يتمتع سكانه بالمياه الصالحة لشربه و ثروته الحيوانية و لري الزراعة الممكنة على أرضه الخصبة عبر مشاريع لا يحول دون إنجازها إلا غياب التمويلات و الاستثمار من فائض عوائد ثرواته و مقدراته الكبيرة، و لا بالطاقة للاستضاءة من الرياح التي لا تحبسها تضاريس عالية و من شمس مشرقة على مدار السرطان و محروقات بتروله و غازه التي كشفت الأقمار الصناعية عن كميات هائلة منهما، و قد استخرجت منهما عديد الشركات العالمية و رمت بعض فتات لمن سهلوا لها و حموها.. و لا أفق تلوح بوادره لتحريك عجلة الصناعة و دفع مسار التنمية الاقتصادية لصالح استقلالية البلد و سعادة و رفاه المواطن.
و بالطبع فإنه في إطار تسيير الحكومات للشأن العام و ضمن مسار بلدانها، لا يكاد يخلو يوم، من بروز قضايا على قدر من الأهمية تمس المواطن و قوته و أمنه و كذا استقرار بلده الاجتماعي و الاقتصادي إلا و يلزم فيه الحكومة من خلال كل قطاعاتها المشكلة أن تباشر، بعيدا عن أسلوب التكتم المتخلف، بمعالجاتها كما ينبغي و بالحرفية العالية التي يجب أن يتمتع بها هرمها و أطرها و كل فئات عمالها بشتى أوجه متطلبات تأمين النجاح في المهمة و بغير ما أن تكون المتفرج السلبي والمغيب الشاطر، حين الإخفاق في ذلك، للمعلومات حولها و اتخاذ وضعية المشلول عن عقلنة الموقع من حيث ريادة القطاع و الموقف من حيث الوظائف المحددة لحمل المسؤولية و تأدية المهام الموكلة، و عن محاربة الشلل الحركي أو القصور الذاتي (L’inertie cinétique) في غياب القدرة على تحرير الإرادة المنفصمة من استحكام صدأ (La corrosion mentale) ذهنية اللاوطن في الوجدان و لا جهد في الميدان. و هي الحالة التي يفسرها، دون أن يستلزم الأمر عناء كبيرا، ما هو متبع ضمن صيرورة ضعف الأداء الحكومي منذ ما بعد الاستقلال بوقت قصير من التخبط في تدبير القطاعات حيث تتخذ القرارات بانتقائية وبعشوائية أحيانا و التغطية الإعلامية الضعيفة و المأجورة على القضايا الكبرى المتعلقة بمنظومة القطاع العملية في غياب الاستراتيجيات الواضحة و المقاربات المندمجة والمنسجمة وفق رؤية علمية مدروسة و متقنة.