الملاحدة الجدد بين الجهل والضياع الحلقة(32) / المرابط ولد محمد لخديم

السبب الثاني:
         أننا نقف من اللغة العربية أمام بحر عظيم من الكلمات والألفاظ على ما فيها من القصور الذي ذكرناه...ومعظم هذه الألفاظ ما يسمى بالمترادف، ومهما كان الكاتب أو المتكلم بليغا، ومهما كان يحفظ في ذهنه من متن اللغة وألفاظها ومترادفها فلا يمكن أن تنصب هذه المترادفات جميعها مكشوفة واضحة أمام خياله، كما تنصب مضارب الأحرف من الآلة الكاتبة

أمام ضاربها، لكي يتلقط من مجموعها ما هو أقرب إلى المعنى الذي يعنيه والشعور الذي يجول في صدره وإنما هو ـ عند التعبير ـ إنما يلقى حبال تفكيره إلى هذا اليم المتلاطم من الكلمات، ليلتقط منه ما قد يتسارع إليه ويسهل على لسانه، وفي اللغة من المترادفات الكثيرة ما ينجده لغرضه ويقوم بعضه مقام بعض في التعبير العام عن مقصوده.
          بيد أن هذه الألفاظ إنما تعد مترادفة، إذا ما أريدت منها الدلالة الإجمالية على المعنى،  وهي التي يقتنع بها العامة من المتكلمين، وهم الذين لا يطمعون في أكثر من إيصال خلاصة إحساساتهم وأفكارهم إلى الآخرين.
         أما عند من يسبر أغوار هذه الكلمات ويستخرج ما يمتاز به كل منها من الخصائص والفروض، فهي ليست من المترادفات في شيء. بل لكل منها دلالته الخاصة وإشارته المتميزة وإيحاؤه الذي لا يشترك فيه غيره، وتصويره الذي ينفرد به عن سائر نظائره فقد تحسب مثلا أن كل من: مضى، وذهب، وانطلق، يؤدي معنى واحدا وأن كلا من: نام، رقد، وهجع متحد في المقصود ولكن الحقيقة ليست كذلك.
         ففي كل كلمة من هذه المترادفات وصف تستقل بالدلالة عليه وإن كان جميعها متفقا في الدلالة على أصل المعنى، بقطع النظر عن خصائص الفروق والأوصاف، كما يقول الإمام أحمد بن يحي المعروف بثعلب.
         وقد كان جمع من أهل اللغة في مجلس عند سيف الدولة، وفيهم أبو علي الفارسي، وابن خالويه، فقال ابن خالويه: أحفظ للسيف خمسين أسما. فتبسم أبو علي وقال:
         أما أنا فلا أحفظ له إلا اسما واحدا وهو السيف. فقال ابن خالويه: فأين المهند والصارم وكذا  وكذا .. فقال أبو علي: هذه صفات، وكأن الشيخ لا يفرق بين الاسم والصفة.
         فمن هنا تضيق السبل على من ينشد الدقة في التعبير والصدق في تصوير المعاني والمشاعر..إذ تسقط فائدة المترادفات من حسابه، لما يختص به كل منها من دلالة وصفة معينة، ولا يمكن أن يتمثل متن هذه اللغة كلها أمام عينيه، ليلتقط منها ما يأتي مفصلا على قدر مشاعره وأفكاره . و إنما هو يأخذ منها ما تبادر إلى ذاكرته وقرب إلى لسانه.
        وعندئذ إما أن يقع في تطويل لا فائدة منه، وإما أن يجنح إلى اختصار مفسد مخل، وإما أن يقع في كلامه على ألفاظ و تعابير تفسد عليه تصوره وتشوش على السامع مقصوده. وإذا اتسعت أمامه السبل في التعبير عن بعض معانيه وأفكاره، ضاقت عليه السبل لدى محاولة التعبير بدقة عن المعاني الأخرى .
        وما كاتب من الكتاب أو بليغ من البلغاء، قديما أو حديثا، إلا وفيه هذه النقائض أو واحدة منها.
       فمن أجل هذين السببين، يعاني الإنسان ـ مهما سمت درجته البلاغية وطاقته التعبيرية ـ من العجز، تجاه محاولته التعبير عن المعاني والمشاعر التي يريد التعبير عنها بدقة. ولا ريب أنه عجز متفاوت تبعا لتفاوت القدرات البلاغية والتعبيرية عند الناس(16).
إلا أن العجز سمة ثابتة للجميع بمعناه الإجمالي فهل من سبيل إلى التحرر من هاتين الظاهرتين اللتين يتجسد فيهما عجز الإنسان لدى محاولة تعبيره عن المعاني والأفكار ؟. وما الدليل على ذلك؟.
مادليل الاعجاز العلمي الجديد:
        يتجلى الدليل على ذلك من خلال شرح ولو ( يسير ) لمظاهر الإعجاز البلاغي؛
1_ المظهر  الأول ( الكلمة القرآنية):
       إن للكلمة القرآنية مزية لا نجدها في الكلمات التي يتكون منها كلام الناس وتعابيرهم مهما سمت في مدارج البلاغة والبيان.
      فهي أولا: تتناول من المعنى سطحه وأعماقه وسائر صوره وخصائصه. ولا تقف عند العموميات التي تقف عند حدودها تعبيراتنا البشرية التي تعاني من العجز...
     وهي ثانيا: تمتاز عن سائر مرادفاتها اللغوية بتطابق أتم مع المعنى المراد. فمهما استبدلت بها غيرها لم يسًد مسًدها ولم يغن غناءها، ولم يؤد الصورة التي تؤديها(128).
    ولنا أن نسأل: لقد اتضح لنا آنفا عجز اللغة عن التعبير عن جميع المعاني والمشاعر، فكيف يتأتى للقرآن أن يسخر كلماته لما وراء الحدود التي تقف عندها طاقة اللغة ذاتها، وهو إنما يستعمل في تعبيراته اللغة ليس إلا؟....يتواصل...

21. أكتوبر 2015 - 10:42

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا