كثيرون منا قد يفاجئهم أويحيرهم ، نتيجة للجهل أو النسيان ،مايحدث في العالم العربي والإسلامي من قلاقل وإضطرابات وحروب كلماتعلق الأمر بالسلطة سواء من ناحية مزاولتها أوكيفية الوصول إليها أو كيفية الإنتقال منها والسبب في تلك الحيرة أوتلك الدهشة والتعجب هو التناقض الصارخ
بين صعوبة بل إستحالة إيجاد حلول لهذه الإشكالية الكبري أي السلطة كلما فرضت علينا الأحداث في العالم العربي تحديات في ممارستها بين الحاكم والمحكومين أو في كيفية تداولها بين الحاكم ومن هو راغب أن يكون حاكما من جهة وبين سهولة وتلقائية بل وبساطة توفر الحلول لنفس الإشكالية في العالم الغربي، اللذي يحيط بنا، كلما واجه تحديات وأزمات في ممارسة السلطة للحاكم إتجاه المحكومين أوفي إنتقال للسلطة بين ممارسيهاوالراغبين في ممارستها بحيث تحول الأمر لمايشبه آلة عندهم ولم تعد فقط نصوصا مجردة، من جهة ثانية.
ومن مايزيد من الحيرة والدهشة لدي البعض هو أنه نظريا من حيث الفكرة والدين والمناهج لدينا،كل شيئ واضح بمافيه الكفاية بضرورة حل إشكاليات السلطة بعيدا عن كل مامن شأنه أن يثير الظلم والقلاقل والحروب في المجتمع.
فماهي إذن المشكلة؟إذاكانت الأمور نظريا في ديننا وثقافتنا وأفكارنا واضحة وحاسمة في الأمر هذا من جهة ومن جهة ثانية النماذج الناجحة تحيط بنا من كل جانب ونشهادها في المجتمعات الغربية ومالحق بها من مجتمعات أخري فمااللذي يجعله صعبا عندنا وسهلا عندهم رغم أننا نظريا متفوقون عليهم فكريا بكتاب ربنا وسنة رسولنا وسابقون عليهم بتجربة عملية غنية لمعالجة إشكاليات السلطة إستمرت نصف قرن بين النبوة والخلافة الراشدة؟.
أعتقد جازما أن الإجابة علي هذا السؤال بعد طرحه بهذا الشكل ستمكننا من فهم فشل وصعوبة كل المحاولات الحديثة لدمقرطة الدول العربية الحديثة منذ الإستقلال إلي يومنا هذا فبالنسبة لي أتصور أن دمقرطة المجتمعات والدول العربية بالشكل الغربي بحيث تحل إشكالية ممارسة السلطة وتداولها بالشكل السلس والآلي كمايحدث في المجتمعات والدول الغربية هو شيئ مستحيل ولايمكن أن يتحقق أبداوربط الناس به وتصويريه لهم أنه سيكون بمثابة عصا موسي وسيحل جميع مشاكلهم وسيحرر لهم القدس هو نوع من الجرم بحق الشعوب ونوع من ربطها بالأوهام وإعاشتها في الخيال وتوتير واقعها بشكل دائم وجرها لصراعات داخلية لاتنتهي أبدا والسبب في وجهة نظري في هذه الإستحالة التي لاتوجد إلا في مخيلة البعض هو في جملة من النقاط سأذكرها لاحقا ولكن قبل أن أذكر هذه النقاط لابد أن أشير إلي أن ماقصدت أنه مستحيل هو أن نتوصل لماتوصل له الغرب منذ قرنين من آليات عملية لحل إشكالية ممارسة السلطة وتداولها، رغم أن السلطة الممارسة والمتداولة في الغرب هي سلطة صورية وليست سلطة حقيقية لأن السلطة الحقيقية عندهم هي البنوك والمجموعات الإقتصادية السرية وهذا مايفسر أزماتهم المتلاحقة ويفسر كذلك سبب نجاحهم في التوصل لهذه الآلية المسماة بالديمقراطية لكن هذا موضوع آخر وليس هو موضوعنا،
إن تقدم الحريات العامة وتحسين ممارسة السلطة وآليات انتقالها شئ مطلوب وليس مستحيلا لكنه لن يصل في بلداننا العربية للدرجة العملية التي وصل لها في الغرب وذلك للأسباب المتمثلة في النقاط التالية
إنفصال الفكرة عن الواقع منذ العقود الأولي للإسلام
خلال ثلاث وعشرين سنة ظل الرسول محمد صلي الله عليه وسلم، أعظم شخصية في تاريخ البشرية، يربي العرب علي تقاليد الحوار والشوري وإحترام الآخر كإنسان بغض النظر عن جميع مميزاته الطينية التي لاحول له فيها ولاقوة كلونه وشكله وقبيلته و...فرغم تلك التربية التي إستمرتخلال الفترة الزمنية التي إلتقت فيها السماء بالأرض وجد العرب المسلمون صعوبة شديدة في إختيار خليفتهم الأول أبي بكر رضي الله عنه ولكنهم في النهاية إختاروه ونجحوا في الإختبار ونجحوا مرة ثانية وثالثة في إختيار الخليفتين الثاني والثالث بطريقة تختلف كل منهما عن سابقاتها ونجحوا نوعا ما في إختيار الخليفة الرابع بطريقة تعتمد نفس المبدأ كسابقاتها لكن للأسف سرعان ماانفصلت الفكرة عن الواقع بشكل مبكر في تاريخ الإسلام والعرب ووأدت التجربة بشكل نهائي بعد ثلاثين سنة من وفاة الرسول صلي الله عليه وسلم وعاد العرب من جديد لعاداتهم القديمة في الحكم والزعامة وهي التغلب والعصبية والصراع الدموي العنيف بين الحاكم ومحكوميه أو بين الحاكم ومنافسه ومنذ ذلك التاريخ أومنذ معركتي الجمل وصفين والإرهاصات التي حدثت قبل ذلك في زمن الخليفة عثمان رضي الله عنه ، إنفصلت الفكرة الإسلامية الرائعة في تنظيم العلاقة بين الحاكم ومحكوميه عن واقع العرب والمسلمين وترسخت عبر القرون منذ الخليفة معاوية رضي الله عنه إلي آخر خليفة إسلامي في بدايات القرن العشرين الميلادي، أي خلال ثلاثة عشر قرنا ،مفاهيم التغلب والقوة والتوريث والقتل والقمع والنفي و...كأساسيات للتعامل بين الحاكم ومعارضيه ومنافسيه ولانريد أن ننبش التاريخ المليئ بالفتن والمظالم ولكن العقل الجمعي العربي خلال مايزيد علي ألف سنة تربي علي أن شرعية الحاكم تستمتد قبل كل شيئ من غلبته لمعارضيه ومنافسيه وبطشه بهم حتي أن الفقهاء نقلوا ذلك من الواقع للفكرة وبات الواقع أقوي من الفكرة عكس ماكان سائدا أيام الرسول صلي الله عليه وسلم والشيخين أبي بكر وعمر فأي قراءة لتاريخ إنتقال السلطة وكيفية التعامل مع المعارضين خلال الفترات الأموية والعباسية والعثمانية وغيرهم من الدويلات الموازية أو اللاحقة تصيب المرء بهول شديد بسبب درجة العنف وقلة الرحمة والإنسانية في التعامل مع أي تهديد للحاكم من معارضيه أو منافسيه حتي ولوكانوا من آل بيت رسول الله صلي الله عليه وسلم كحادثة الحسين سبط رسول الله صلي الله عليه وسلم أوكانوا علماء أجلاء كحادثة حبس وتعذيب الإمام أحمد أو كانوا حتي إخوة للحاكم كماوقع بين الأمين والمأمون أو كماحدث بين جميع خلفاء الدولة العثمانية فمانشاهده اليوم من عنف وبطش في المشرق العربي له أصوله التاريخية في العقل الجمعي العربي
ولقد فشلت جميع محاولات التصحيح خلال هذه الألف سنة منذ محاولات الخليفة الرابع علي كرم الله وجهه لترتيب البيت الداخلي وإعادة الأمة لسنن الرسول صلي الله عليه وسلم والشيخان حيث تغلب عليه العرب في النهاية بعد خمس سنوات من التجاذبات والصراعات بدء بالفتن في زمن الخليفة عثمان رضي الله عنه وإنتهاء بمعارك الجمل وصفين والنهراوان وفشلت بعد ذلك محاولة الخليفة الحسن سبط رسول الله صلي الله عليه وسلم عندماتنازل لمعاوية مقابل أن تعود الأمة لفكرة البيعة والشوري بعد وفاة معاوية وفشلت ثورة الحسين رضي الله عنه عندماهاله وصدمه توريث الحكم في الدولة الإسلامية وفشلت في النهاية محاولات الخليفة عمر بن عبد العزيز لإعادة الأمور لعهدها الراشدي وفشلت محاولات الأئمة الأربعة وغيرهم و... وظلت قيم التغلب والقوة والبطش هي الأساس الأول لشرعية الحاكم ولكن يزيدها ويوطدها بالجهاد والغزو الخارجي وإعطاء الحرية الأدبية والدينية و...للأمة مقابل أن لاتهدد ملكه وهذا عكس الحال عليه في الغرب فخلال القرون الخمسة الأخيرة شرعية الحاكم أصبحت تستمد عندهم عن طريق صندوق الإقتراع وليس عن طريق الغلبة كالحال تاريخيا وعصريا في العالم العربي
السلطة الممارسة والمتداولة في الغرب تختلف عن السلطة في العالم العربي
قد أفهم شغف العامة وولعهم وفتنتهم بالديمقراطية الغربية وماتتيحه من آليات للتداول علي السلطة وممارستها لكني لاأفهم شغف المثقفين بذلك وخصوصا ذوي الثقافة الفرنسية والإنكليزية منهم وخاصة ممن قدر لهم الزمن أن يعيشوا فترة تخولهم فهم المجتمعات الغربية وحقيقة من يتحكم بزمام الأمور فيها فرغم أهمية الرئيس أو رئيس الوزراء أو المستشار لكنه ليس هو المتحكم الفعلي في مصائر الناس وليس له الأمر والنهي اللذي يستطيع به قلب الأمور نحو الأحسن أو نحو الأسوء كماهو حال الرئيس أو الملك في العالم العربي ذلك أن الرأسمالية الغربية ممثلة في رؤوس الأموال والبنوك والمجموعات الإقتصادية الكبري تنازلت للشعوب والسياسيين عن قدر من السلطة ممثلا فيمانشهاده من إنتخابات وأحزاب و...ولكن هذا القدر ظل يتناقص ويتناقص حتي كادت السلطة الفعلية أن تنحسر في يد رؤوس الأموال والبنوك والمجموعات الإقتصادية الكبري التي لاتنتخب ولايحدث فيها أي تناوب رغم أنها هي المتحكمة في مصائر الناس وبيدها الأمر والنهي اللذي تستطيع به قلب الأمور نحو الأحسن أو نحو الأسوء وهذا ماكاد يحول العملية الديمقراطية لنوع من المسرحيات كماحدث مؤخرا في إنتخابات اليونان وإيطاليا حيث كشرت الرأسمالية الغربية عن أنيابها في وجه خيارات الشعوب ولكن ذكاء الرأسمالية الغربية هو في منحها دائما قدرا من السلطة للشعوب وإستيعابها وإحتوائها للسياسيين بحيث تبقي العملية في نطاق السيطرة ولاتخرج عن الإطار المسرحي المرسوم لها ولكنها إذا أضطرت لأن تكشر عن أنيابها تفعل كمافعلت مع شعب النمسا سابقا وإيطاليا واليونان أخيرا وهذا عكس الحال في العالم العربي حيث أن مركز الحكم الحقيقي هو في يد الحاكم من مايصعب عملية تبديله أوعملية تعامله مع معارضيه ومنافسيه
الغرب لم ولن ينسي تاريخ العالم العربي ومايشكله من خطر
قد تسمح الرأسمالية الغربية بنجاح الديمقراطية في أي مكان في العالم بشكل حقيقي سوي في العالم العربي وذلك بسبب أشياء كثيرة أهمهما الفوبيا الإسلامية الناتج من التصادم التاريخي مع العرب والمسلمين وكذلك وجود إسرائيل وبعلم الرأسمالية الغربية بإستحالة أن تحتل الرأسمالية في العالم العربي نفس المكانة التي أحتلتها في الغرب بحيث تفرغ الخيار الشعبي من مضمونه وذلك لأسباب فكرية وعقدية يطول شرحها تجسد الفرق بين المواطن الغربي والمواطن العربي
الديمقراطية الغربية ليست نهاية التاريخ وليست الخيار الوحيد للتنمية
لوكانت الأمور تجري مثل مايتمناه كل مخلص وكل محب لوطنه لجرت الأمور بنفس الطريقة التي سارت بها في عهدالخلافة الراشدة أي طريقة البيعة والشوري ولكان العرب توصلوا قبل الغرب لهذه الآلية العملية في ممارسة وتداول السلطة ولكن للأسف جرت الرياح بمالاتشتهي السفن وظلت تجري بمالاتشتهيه سفن الديمقراطية خلال مايزيد علي ثلاثة عشر قرنا وتواصل نفس الحال في عهد الدول الحديثة ولكن رغم ذلك الأمة تقدمت ونهضت وتوسعت شرقا وغربا وازدهرت فيها كل العلوم وأنارت العالم وقادته خلال ألف سنة وردت عنه العدو وانتصرت عليه بدون ديمقراطية وبدون تداول ديمقراطي علي السلطة وحرر صلاح الدين الأيوبي القدس بدون الديمقراطية وفي عصرنا البعض يعتبر الديمقراطية شرطا لتحرير القدس وقضي عمر بن عبد العزيز علي الفقر بدون أي ديمقراطية وانتصر المرابطون في توحيد موريتانيا والمغرب ومعركة الزلاقة بدون الديمقراطية إلي آخره من أمثلة تبين أن الأمة إستطاعت أن تنهض داخلياوتنتصر علي العدو خارجيا رغم أنها فشلت في العقود الأولي للإسلام في تطبيق مبادئ الشوري والنصيحة في ممارسة وتداول السلطة ولذلك أستغرب وأشفق علي حال بعض مثقفينا اللذي فتن بالغرب بشكل شديد وبات يجزم بإستحالة أي تنمية وأي إنتصار علي العدو قبل أن ننجح في ديمقراطية صندوق الإقتراع هذا فضلا عن أنه في الزمن المعاصر إستطاعت دولة الصين أن تنتقل خلال ثلاثين سنة فقط من أفقر دولة إلي ثاني إقتصاد في العالم دون أن تؤمن أو تطبق ديمقراطية صندوق الإقتراع فاللذي يهم في النهاية هو التنمية والنهضة والأمن ونشر الحريات والعدالة سواء تحقق ذلك عن طريق الديمقراطية أوأي شيئ آخر هذا فضلا عن أن التجارب الحديثة أثبتت أن أول شرط لنجاح مايسمى بين قوسين بالديمقراطية هو أن تكون هناك طبقة متوسطة هي الأغلب في البلد وأن يكون هناك تجانس ديني وعرقي ومذهبي بين مكونات الشعب وأن ﻻ تكون هناك لعنة الجغرافيا أو الديموغرافيا السياسيتين ووقتها ربما تستطيع أن تنجح الديمقراطية كمايسمونها وعلي كل إن كان الفقر والأمية والتهميش واتساع الأراضي هي السمات المسيطرة فستكون الديمقراطية نوعا من العبث ولكنه قد يستمر لكنه ﻻ محالة سيصل لنهاية مشابهة لديمقراطية مالي وبالتالي المشكل في الدول الفقيرة ﻻ يحله ابدا تغيير أشخاص وﻻ استعراضات جماهير ﻻ تفهم ماذايجري وﻻ ماذاتريد.