ولنا أن نسأل: لقد اتضح لنا آنفا عجز اللغة عن التعبير عن جميع المعاني والمشاعر، فكيف يتأتى للقرآن أن يسخر كلماته لما وراء الحدود التي تقف عندها طاقة اللغة ذاتها، وهو إنما يستعمل في تعبيراته اللغة ليس إلا؟.
والجواب: أن القرآن يتناول ـ كما سنرى ـ من الكلمات المترادفة أدقها دلالة،
وأتمها تصويرا بالنسبة إلى نظائرها. فإذا استنفذت اللغة طاقتها ولا تزال بقية من المعنى أو الصورة شاردة وراء حدود اللغة, اتسعت لها الكلمة القرآنية وشملتها عن طريق ما تتسم به من جرس, ووزن, وإيقاع.
ولن تعثر مهما حاولت، على أي ضابط لهذا الجرس والوزن، والإيقاع، مؤملا أن تطبقه في كلامك وتعبيرك. إنما هو الإحساس الذي يفيض به شعور القارئ عند تلاوته لهذه الكلمات أو سماعه لها مسبوكة مع بعضها، قائمة ضمن هيكلها القرآني الفريد.
(فأغطش) مثلا في قوله تعالى: ﴿ وأغطش ليلها وأخرج ضحاها﴾ (97).
مساوي من حيث الدلالة اللغوية لأظلم. ولكن (أغطش) تمتاز بدلالة أخرى من وراء حدود اللغة يستقل بها الوزن وجرس الأحرف متآلفة مع بعضها. فالكلمة بهذه الدلالة عن ظلام انتشر فيها الصمت وعم فيها الركود وتجلت في أنحائه مظاهر الوحشة.
ولست بحاجة ـ لفهم هذه الصورة من الكلمة ـ إلي وساطة لغة أو مراجعة قاموس وإنما هو إحساس ينبعث في نفسك من طبيعة الكلمة ووقع حروفها.
وكذلك (سكنا) من قوله تعالى: ﴿ فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا﴾(98)
فهي من حيث الدلالة اللغوية مثل قولك: هدوء، طمأنينة، ولكن المعنى الذي تبثه في شعورك الكلمة القرآنية، لا تجد شيئا منه في غيرها مهما تساوى معها في أصل الدلالة اللغوية.
إن طبيعة الأحرف التي تتكون منها كلمة (سكنا) مع توالي الفتحات على حروفها، تشعرك بذلك الهدوء الذي يبعث الطمأنينة وينشر الأمن والراحة في أنحاء النفس، دون أن تحتاج في ذلك إلى معرفة أية دلالة لغوية.
ثم حاول أن تحذف كلمة واحدة من كلمات هذه الآية، وان تستبدل بها غيرها، مما يؤدي المعنى ذاته، مستعينا باللغة وقواميسها، فلسوف ترى أن اللغة كلها اعجز من أن تأتي بألفاظ مثلها أو خير منها في الدلالة على المعنى وتصوير الأحاسيس المطلوب تصويرها. ومهما غيرت في الآية أفسدت من بهائها ونقصت من روعتها وإشراقها.
ابحث عن أي كلمة تقوم مقام (فالق) في أداء المعنى وتصوير المراد وتجسيم الفكرة, أو ابحث عن أي كلمة أخرى تضعها موضع (الإصباح) في دلالتها على الحركة والانبثاق وبث الصورة المطلوبة، أو حاول أن تأتي بكلمة أخرى مكان (سكنا) آو بكلمة أخرى أدل واخصر واجمع من هذه الكلمة العجيبة (حسبانا) فانك لن تملك من ذلك كله إلا إفساد الآية أو تشويه دلالتها.
وربما عجزت اللغة عن اللحاق بالصورة المحلقة التي يريد المتكلم أو الكاتب أن يبثها في خيال السامع، فاضطر أن ينزل عن بساط خياله المحلق، لحاقا بكلمة تقف دون الصورة التي يريدها، لا يجد في اللغة سواها، فيفسد بها الصورة كلها.
غير أن القرءان لا يعجزه أن تكون الكلمة دائما في مستوى المعنى المراد، على أدق وجه، فهو يصعد باللغة إلى المعنى أو الصورة المطلوبة, ولا ينزل بالمعنى أو الصورة إليها في حال من الأحوال.
انظر حينما يصف البيان دعوة امرأة العزيز للنسوة اللاتي يتحدثن، منتقدات، عن مراودتها ليوسف عليه السلام عن نفسه، إلى جلسة رائعة مترفة في بيتها، لتطلعهن فيها على يوسف، فيعذرنها فيبما أقدمت عليه... لقد قدمت لهن في ذلك المجلس الطعام ولا ريب. ولقد أوضح القرآن هذا، ولكنه لم يعبر عن ذلك بالطعام، وهو اللفظ الذي لا بد أن يعبر يه أو بنظيره أي واحد من الناس مهما امتلك ناصية البلاغة والبيان، لم يعبر البيان الإلهي بهذه الكلمة لأنها إنما تصور شهوة الجائعين من حوله، وتنقل الفكر والخيال إلى (المطبخ) بكل ما فيه من ألوان الطعام وروائحه وأسبابه..
فبماذا عبر القرآن إذن؟ .. وأين في اللغة الكلمة التي تؤدي معنى الطعام ولا تمس الصورة بأي تعكير أو تشويه؟.
لقد أبدع القرآن لذلك تعبيرا عجيبا رائعا.. فانظر ماذا قال تعالى: ﴿ فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعدت لهن متكئآ﴾ (99).
(متكئا)، كلمة قرآنية، تصور لك من الطعام ذلك النوع الذي لا يقدم إلا ترفا وتفكها وتجميلا للمجلس وتوفيرا لمظاهر المتعة فيه، حتى إن الشأن فيه أن يكون الإقبال إليه على حالة من الراحة والاتكاء. والكلمة من الألفاظ الكثيرة التي أبدع القرءان صياغتها واشتقاقها فتعلق العرب بها من بعد، ولولا ذلك لما اهتدوا إليها ولخانتهم اللغة في هذا الباب عن تصوير ما يريدون.
ونظرا إلى أن القرءان إنما نزل خطابا للناس جميعهم، على تفاوت ثقافاتهم، واختلاف عصورهم فإن الكلمة القرآنية تنطوي على دلالات متعددة، تستجيب للظروف كلها ولأحوال الناس كلهم، إذا كانت تلك الكلمة تتعلق بمعنى يختلف من عصر إلى آخر أو يتفاوت فهم الناس له حسب تفاوت ثقافاتهم وعلومهم.
ومكان الغرابة والعجب، في هذه الكلمات، أن دلالاتها لا تتناقض على الرغم من اختلافها، ولا يشرد شيء منها عن قواعد اللغة ومقتضياتها، فهي تحتضن في وقت واحد هذه الدلالات، لتقدم إلى كل عصر أو فئة من الناس ما هو اقرب إلى مألوف ذلك العصر أو ثقافة أولئك الناس. وجميعها دلالات صادقة صحيحة لا تنسخ واحد منها الأخرى.
وأنت لو حاولت أن تلتقط من اللغة كلمات مرنة غنية بهذا الشكل، لرأيت أن الأمر يحتاج إلى جهد عظيم لا يمكن أن ترقى إليه طاقة البشر. مهما أوتي من قوة الحفظ وسمو البيان. من الأمثلة على ذلك أن القرآن حدثنا عن مظاهر انعم الله على عباده بها، ومن جملتها النار. فنبهنا إلى مختلف فوائدها لحياتنا، وأوضح أنها متاع يحتاج إليه في حالة السفر واجتياز القفار، ولتحضير الطعام، ولما وراء من أسباب المتعة والرفاهية.. فكم هي الكلمات أو الجمل التي تتصور أنها وفت بالتعبير عن هذه الفوائد كلها؟.
إنها ليست أكثر من كلمة واحدة!
وأسمع في ذلك قوله عز وجل ﴿أفرأيتم النار التي تورون أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين﴾ (100).
المقوين!!.. هذه هي الكلمة التي تحمل المعاني كلها. فالمقوين جمع مقو، أي نازل في القواء (وهو المكان القفر) أو مجتاز بها، وعليه قول النابغة:
يا دار مية بالعلياء فالسند * * أقوت وطال عليها سالف الأمد
والمقوين أيضا من القوى وهو الجوع، وعليه قول حاتم الطائي:
واني لأختار القوى طاوي الحشا * * محاذرة من أن يقال لئيم
والمقوين أيضا جمع مقو، بمعنى المستمتع، كما قال مجاهد (101).
وعموم الاستمتاع في هذا المعنى الثالث، إنما يفسره الزمن وتطور الأحوال وتقدم أسباب الحياة والعيش.
فهل يطيق بشر، كائنا من كان. أن يخضع اللغة لمقاصده هذا الإخضاع العجيب، فيحشد مثل هذه المعاني المتباعدة في كلمة واحدة، تأتي طوع قصده ومراده، بدون أي تمحل أو تكلف أو تقعر.؟!...
ويتصل بهذا الذي نقول...يتواصل....