إن المتابع لبرامج قناة " الموريتانية" منذ أكثر من أسبوع يلاحظ أن القناة الرسمية تحولت إلى قناة " وثائقية" أو تاريخية، تكرس جميع ساعات البث - تقريبا- لقصص عن المقاوة الوطنية، بعضها صحيح، وبعضها مجرد إسرائيليات، لا أول لها، ولا آخر، صحيح أن تنمية الحس الوطني لدى المواطنين،
وإبراز تضحيات أجدادنا لنيل الحرية والاستقلال أمر مهم، ليس فقط في شهر نوفمبر، بل في جميع أشهر السنة، لكن ما هو صحيح كذلك هو أن التركيز على التاريخ يـُولد جيلا ينظر إلى الوراء، بدل إدراك الحاضر، واستشراف المستقبل.
خلال تناولنا لتاريخ مقاومتنا الباسلة، ينبغي أن نستحضر الملاحظات التالية:
أولا: يجب أن نتناول تاريخنا بكثير من التجرد، والموضوعية التاريخية، والروح النقدية، حتى نستطيع أن نفتخر بإنجازات أجدادنا، وفي نفس الوقت نستفيد من أخطائهم، بدل أن ظل نمجد الماضي، بغثه، وسمينه، ونعتبره " مقدسا" في حين أن الهدف الأول من قراءة التاريخ هو العبرة.
ثانيا: ينبغي أن نبتعد عن التوظيف السياسي للوقائع التاريخية، فتلك جريمة كبرى، وترقى لحد " سرقة" التاريخ.
ثالثا: يجب أن نجعل من تاريخنا عاملا لوحدتنا،وضمانا لمستقبلنا، وهنا يجب أن تبتعد " الموريتانية" عن الجهوية، والانتقائية في التركيز على بعض أحداث المقاومة الوطنية دون غيرها، فالنصر، والاستقلال حققته سواعد، وتضحيات الموريتانيين، كل الموريتانيين، ومن يقول غير ذلك يهدم، ولا يبني.
إن تغطية قناة " الموريتانية" لتخليد الذكرى 55 لعيد الاستقلال الوطني في بعض جوانبها لا تلتزم بالملاحظات السابقة، مما حول برامج " الموريتانية" إلى برامج مـُستنسخة، لا يتغير فيها سوى وجوه الضيوف، في مشهد بات مملا للمشاهد، ليس لأن الحديث عن المقاومة، والتاريخ أمرا مهما، بل لأن الحديث عن الحاضر، والمشتقبل أمر أهم، فلماذا لا تناقش " الموريتانية" مثلا مواضيع من قبيل" ما الي تحقق للشعب الموريتاني منذ 55 سنة من استقلاله" ؟ ما أسباب تخلفنا، وتقدم الآخرين؟ هل تم تسيير ثرواتنا الوطنية بالأسلوب الأمثل ؟ وهل البلاد اليوم تسير على الطريق الصحيح؟.
أسئلة، ومواضيع جوهرية، لا تتطرق لها " الموريتانية" إطلاقا، فبالنسبة للتلفزيون الرسمي تاريخ موريتانيا، إما مقاومة، وكفاح من أجل الاستقلال، وبعد ذلك تطوي " الموريتانية" الزمن، وتتجاوز التاريخ، في رحلة مباشرة، لتصل مباشرة إلى سنة 2009 حيث بدأت النهضة، والإعمار، والازدهار، في تجاوز واضح، وفاضح لحقب مهمة من تاريخ هذا الشعب، وتوظيف رخيص للتاريخ في السياسة الراهنة.
كما أنه من الملاحظ أن معظم ضيوف " الموريتانية" هذه الأيام هم من بسطاء المواطنين، بمعنى أنهم لا يتقلدون أي مناصب هامة في البلد، ولا يتحملون أي مسؤوليات عن حاضره، ومستقبله، هم فقط مجرد " رُواة" يحكون القصص، وكأنه جيء بهم للتسلية، واستهلاك الوقت، في حين كان ينبغي ل" الموريتانية" استضافة رئيس الجمهورية مثلا لتسأله عن سياساته في الاقتصاد، والتعليم، والصحة، والأمن، والعدل... وتستضيف الوزراء لـ" تـُسائلهم" عن مكامن الفشل في قطاعاتهم، ومشاكل المواطنين، وما الذي تعتزم الحكومة تقديمه في هذه المجالات.
إن ذكرى الاستقلال هي مناسبة سعيدة بالنسبة للشعب، ويجب على الجميع أن يتنافسوا في تقديم ما يـُدخل الفرحة، والسرور على المواطنين في هذه المناسبة، بدل إلهائهم بقصص الأجداد، فالحديث عن " الاستقلال" أمر ضروري، لكن الحديث عن " الاستغلال" أمر لا بد منه.