جاء في خبر ورد على صفحة أحد أكثر المواقع قراءة و اطلاعا أن صراعا بين الأقوياء منع إقرار صفقة دولية كبيرة بالبلد. و لا شك أن الخبر أثار جملة من الأسئلة العالقة في الحلق غصة و التي منها بالتأكيد:
ـ من هم الأقوياء و ما هي مواصفاتهم دون غيرهم؟
ـ هل هم أقوياء موسم عابر و أوصياء أنشطة زمن ذاك الموسم ؟ و هل ينشطون خلاله وحدهم و يجلسون منفردين حول المائدة، أم هل يشاركهم بعض أقوياء المواسم المنصرمة و ربما المقبلة؟
ـ ما هي تشكيلة هؤلاء الأقوياء و كيف تمت؟ و بأي مزاج يتصارع عناصرها؟ و هل هو صراع للتقاسم عند الخواتم أو للاستئثار المرحلي دون شريك و بعيدا عن عوامل وحدة صف الجبهة؟
ـ كيف تم إفشال الصفقة و بأي هدف؟
ـ من هم أقوياء الأقوياء الذين أرادوا الاستئثار بالصفقة؟ هل من الصقور الجدد أم النسور من الذين سبقوهم، أم أنهم هجين بين الاثنين و كيف؟
و مهما تكن الردود على هذه الأسئلة و غيرها الكثير فإنه من المعلوم بداهة أن علو شأن أية فئة اجتماعية منبثقة من صميم القبلية أو متأتية من التحالفات العشائرية و محاذاتها الإثنية و القبلية في دائرة أكبر و الطبقية في حيز التشابك الضيق و التحالفات مع قوى طمع و هيمنة أخرى، إنما هو دورة من دورات الزمن الذي لن يقف بالطبع عند هذا الحد في البلد الذي ما زال يُصَرف كل أفعاله صيغة الماضي في الحاضر دون اعتبار للمستقبل، و علما بأن التاريخ لن ينتهي بذاك المشهد العابر و إن طال بتوقيت البشر، بل ستمر دورات ودورات و تتعاقب تيارات و تيارات تحقيقاً لقول الله تعالى"وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ". و لكن حبذا لو حُمِلَتْ الآية الكريمة على حُسن مقاصدها بالتداول من منطلق الإيمان و الإتباع و الإصلاح و العدل، لا بما يظل يؤكد على أن جاهلية النفوس ما زالت مستحكمة تفرض على التداول أن يبقى بثوب السلبية من حيف و غبن و استضعاف و تمالئ القوي مع القوي على الضعيف و خلق تباين القوي المزدهي بقوته الغاشمة و الضعيف المطحون بفقره و غبنه تماما ما فرضته "السيبة" كقانون تسير به المنظومة الاجتماعية رغم ما يدعو له الإسلام من مساواة و إنصاف و تعاضد و لحمة و من تقاسم الخيرات و إن فضل الله فيها البعض عن بعض.
و إذ الحال في هذه البلاد بهذا المنطف الملتوي في الواقع رغم رفضه على الإدعاء الساري فأي دليل يراه حائر أقوى على دوام رؤية نفوذ عقلية "السيبة" و استحكامها، مما هو مشهود من التناوب تقاسما بالرضا الزائف أو بغيره إكراها أو مجاملة لهذا النفوذ و مركباته من جاه و مال بين فئة عشائرية تصل إلى تلك المرتبة من خلال ضربة حظ عابرة أو بقدرة فائقة على اقتناص فرص التأزم أو الاحتقان وعلى خلفية استقطاب عون الحلفاء العشائريين للاصطياد جميعا في المياه العكرة على هدي خضها الجديد و انتزاع النفوذ و انتهاج السعي إلى التحصيل في مواسم تحدد وحدها الأمزجةُ و الظروفُ المتقلبة أحوالهَا و مدتهَا.
هي عقلية "السيبة" لا تترك الأمور تفلت إلى حيز الفوضى العارمة المخلة بنظامها و المفككة لطلاسمها، فتترك للساعين إلى ذلك "شعرة معاوية" حتى لا يستلوها من الجذع، و لما أن يَهَابُوهَا من رهبة تشدها شد الضرغام المفترس.
و لأن "السيبة" لازمة كل أنشطة الحياة:
ـ الاجتماعية حيث توزع المجتمع المسلم إلى فئات غير متكافئة و غير متساوية في الحقوق،
ـ و التعاملية حيث يقبل للبعض الخطأ بحجة النبل و السمو ضمن تراتبية لا تستند إلى شرع الله أكثر منها إلى الاعتبارات التي كانت قائمة قبل الإسلام،
ـ و كل الأنشطة التي تنظمها الدولة و تسهر عليها منذ نشأتها، حيث تطبع بعلامات "السيبة" التي لا تنمحي لتبقي جوهر التعامل معها و فيها في سياق مدها و جزرها المشكلين توٍازنها و المبقيين عليها.
هي الحقيقة المرة التي لا يكترث لها أحد و إن كل أحد من الشعب المعاني في غالبيته العظمى لن يفلت مطلقا من تداعيات هذا التغافل المقيت، كما لن تنجو الدولة في وحدتها من تآكل وجودها المرهون بمقدراتها التي تنهب نهبا من قبل الدول القوية و نهب الفتات المتبقي للأقوياء من الارستقراطية الإقطاعية اجتماعية و سياسية التي توقع أو تمنع الصفقات التي ما كان لها إلا أن تكون وطنية خالصة لوجه البلد و مواطنيه.