كلمة الإصلاح هذه المرة تريد أن تحط رحالها حول هاتين المؤسستين القرآنيتين التي تستمع دائما إلى برنامجها وموضوعهما القرآني، ونتيجة لاهتمام كل مسلم بهذا الموضوع وهو القرآن، فإني أود أن أسجل هنا ملاحظات كنت قد كتبت فيها إلى هاتين المؤسستين.
وقد بينت في تـلك الملاحظات أن غالبية المسلمين في موريتانيا
تود من المشرفين على هاتين المؤسستين أن يتوسعا في موضوع برنامجهما ليتجاوز حفظ القرآن ورسم المصحف وعلوم العربية إلى موضوع القرآن نفسه وما أراده الله من إنزاله وضمان حفظه بين هذه الأمة بعد أن بلغها الرسول صلى الله عليه وسلم ما أنزل إليه من ربه وبينه لها تبيينا، وختم ذلك التبيـين بقوله تعالى [اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا] إلا أني لاحظت أن تـلك الكتابة المتعلقة بالموضوع لم تصل إلى المشرفين على تلك المؤسستين إلا وهما قد نهجا بالمؤسستين نهج المحظرة الموريتانية القديمة التي يظن الجميع أنها النموذج الأعلى في المحافظة على كل ما يتعلق بالتراث الإسلامي من حفظ للقرآن وعلومه والفقه وما يتصل به وأنواع علوم العربية الوعاء الأمين لهذا الدين الحنيف.
وبما أن المشرفين على المؤسستين ابتداء من مجالسهما العلمية إلى المديرين إلى أساتذة الفنون المقروءة والمرئية منهما إلى آخر كل أولئــك هم فطالحة من علمائنا الخيريين المحترمين المتبحرين المخلصين للإسلام وما يتطلب ذلك من مجهود يؤسسه ويعمقه في قلوب المسلمين، إلا أني كنت قد نبهت في تلك الكتابة أن المحظرة الموريتانية أجادت وأفادت في الموضوعات التي كانت هي ميدانها وهو الحفظ وعلى رأسه حفظ القرآن الكريم وكذلك حفظ المتون والتوسع في كل المواضيع التي ركزت نفسها على الاهتمام بها، وبذلك تخرج منها فطالحة علماء سادوا العالم الإسلامي في كل بلد وصلته أقدامهم، واعترف لهم العالم الإسلامي وعلماؤه بذلك.
إلا أننا يجب أن نعترف نحن سواء سمينا أنفسنا بالشناقطة أو الموريتانيين أننا لم نـلتفت إلى أهم ما في الإسلام من موضوع ألا وهو فحوى هذا القرآن كيف وضعت ألفاظه تحت لسان القارئ وكيفية وقع ألفاظه على قلب القارئ والسامع أو بمعنى آخر ما يفهم من قوله تعالى [لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله] أو ما يفهم من قوله تعالى [ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى].
ومعلوم أن جواب "لو" المحذوف هو لكان هذا القرآن وحذف الجواب هنا لعظمته ولكن جاء مكانه ما هو أعظم وأعم منه وهو قوله تعالى [بل لله الأمر جميعا].
ومن أمثـلة ما لم تـنـتبه له المحظرة الموريتانية هو قوله تعالى [الله نزل أحسن الحديث كتابا مثاني تـقشعر منه جلود الذين يخشون ريهم ثم تـلين جلودهم وقـلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدي الله يهدي به من يشاء من عباده].
وإلى جانب هذه الآيات وأمثالها أكثر المولى عز وجل من ضرب الأمثال لهذه البشرية في هذا القرآن ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب فأين تتبع المحظرة الشنقيطية لقوله تعــالى [ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل] [ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن ليذكروا].
ومن هنا يدرك السادة العلماء أن موضوع خصوصية القرآن بهذا النوع من الدراسة ومداركها المنتشرة في كل آية تقريبا وفي كل قصة جاء بها القرآن وكل وصف أورده القرآن للجنة وأهلها المتنعمون فيها وكل وصف أورده للنار وأهلها المعذبون فيها، وكيفية خصوصيته جل جلاله بمعاملة هذا الإنسان من ساعة الموت إلى المقر الأخير إما في الجنة أو في النار كل هذا لا يمكن لأي شخص أن يـبيـنه في مقال هو مجرد تسجيل ملاحظات، ولكن لاشك أن الموضوع سيصل بهذا القدر إلى قلوب العلماء وسنزيده إن شاء الله توضيحا عندما نذكر الآثار السلبية لعدم الالتفات إلى ذلك النوع من الدراسة القرآنية في المحظرة الشنقطية.
فمن المعلوم أن وجود هاتين المؤسستين الطارئـتين في موضوعهما الخير هو فرصة ذهبية لكل مسلم اختاره الله أن يكون مجددا لهذا الدين بهاتين المؤسستين عن طريق تبيـين ما أودعه الله داخل هذه المعجزة الكبرى التي ما زالت محفوظة ولله الحمد وألفاظها وأسلوبها ووقعها على قلوب المسلمين ما زال إحياؤه وتداركه والتوسع فيه حتى يؤتي أكله ممكن سواء كان هذا المجدد الآمر بإنشاء المؤسستين أو العامل فيهما إلا أن المتتبع لبرنامج هاتين المؤسستين الآن فسيجد المشرفين عليهما جعلوهما صورة طبق الأصل للمحظرة الشنقيطية التي تقدم وصفها كما هي إيجابا وسلبا بل إن المشرفين علي هذه المؤسستين أحيوا فيها كثيرا من العلوم لم تكن في المحظرة الموريتانية القديمة إلا نادرا ولم يكن هذا زمنها ولا شعبها ولا مردود منظورا من قرائها حتى أن العلوم التي هي أقرب للقرآن في موضوعه الخاص به والتي لم تكن دراستها منتـشرة في المحظرة الشنقيطية لم نسمع بها كثيرا في البرامج ألا وهي الإعجاز القرآني والبلاغة بعلومها الثلاثة التي هي أوضح معنى وأكثر تأثيرا على قارئي القرآن من العلوم النحوية التي غالبها مجرد اصطلاح توسعت فيه المدرسة العراقية في زمن ترف الفكر العراقي العربي ذلك الترف الفكري الذي لا معنى لدراسته في هذا القرن الذي أصبحت فيه الهواتف الذكية تكاد تخبرك بأسرار الكون المسخر للإنسانية من طرق المولى عز وجل، فضلا عن الإنسان الذكي الذي أصبح هو الآخر معجزة في هذا الزمان.
إن تركيز الاهتمام بحفظ القرآن وتجويده ورسم المصحف العثماني إلى آخره لم يكن يوما من الأيام ينقص الولد الموريتاني.
فالولد الموريتاني الذي كان عليه أن يحفظ القرآن ويتقن علومه ما زالت تلك همته ولو لم تخلق هاتين المؤسستين أما الولد الموريتاني الذي لم يكن يحفظ القرآن فما ذلك إلا نتيجة عدم قراءة المحظرة الموريتانية لمراد القرآن من مخاطبة البشرية خطابا موحد في عمومه وموحدا في لفظه وموحدا في نتيجته.
إن التوسع في قراءة النحو بإضافة الكافية على الألفية وملحة الإعراب وأجروم إلى آخره وكل هذا المراد منه حقيقة معرفة ما يكون عليه أواخر الكلم العربي الذي كان يوما من الأيام مستغني عنه بالسليقة العربية كان يكفي فيه ملخصا يقوم بهذه المهمة في هذا الزمن وكفى، وكذلك كراسي الأئمة والفقهاء والمحدثين الذي لا شك يتطلب كثيرا من الإنفاق كان يكفي في هذا الزمن أن يلخص اجتهاد كل واحد منهم لينضم إلى اجتهاد الآخرين ويستخرج من ذلك للمسلم زبدة ينفع تطبيقها في سيرة حياته الذاتية المسجلة عند الله تسجيلا دقيقا لا مراء فيه ولا مجاملة.
وهكذا عندما يراجع المستمع جميع برامج هذه الإذاعة وتلك القناة، ويشاهد فيها شيخا يدرس محظرة على شاشة التلفزة فيرى صورة مكررة لما يجري كل يوم في نفس المحظرة لابد أن ينطق لسان حاله بقوله:
أوردها سعد وسعد مشتمل *** ما هكذا يا سعد تورد الإبل
أي ما هكذا يضيع هذا الوقت الثمين وتصرف تـلك المبالغ على المنظر فقط ويبقي الجوهر يحتاج أكثر فا كثر.
ومن هنا أسمحوا لي أن أعود إلى السلبـية الوحيدة ولكن ما أعظمها في البرنامج التقليدي للمحظرة الشنقيطية ولكن أرجوا أن تصبروا لي صبرا جميلا على هذا التحليل الذي لا أرجوا من ورائه إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيـب.
فالمدرسة الشنقيطية بما أنها كانت نموذجا عالميا في عالم الإسلامي كما ذكرنا إلا أنها أهملت إهمالا شبه كامل دراسة القرآن دراسة تـتـفق مع موضوع إعجازه من جميع الجهات من جهة تركيب الألفاظ تركيبا لغويا لم تعرف العرب مثله وذلك بتكرار الألفاظ المعبر عن ما يستحق الاهتمام مثل: الحاقة ما الحاقة وما أدريك ما الحاقة، القارعة ما القارعة وما أدريك ما القارعة.
وكذلك ضم الحروف المؤثـر لفظها عند النطق بها مثل: الطامة، الصاخة، وكثرة استعمال الألفاظ العامة لكل البشرية كل نفس ذائقة الموت، كل نفس بما كسبت رهينة، يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله، أي كثرة نفي النكرة التي لا تـترك شيئا إلى آخره.
وكذلك مثل قوله تعالى [اشتروا الضلالة بالهدى، اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة] إلى آخر ما في القرآن من التوضيح بكل أسلوب.
ولأجل بعد تلك المدرسة من القرآن كموجه وكتشريع إلى آخره لم يطلق على أي عالم موريتاني اسم مفكر إسلامي إلا إذا كان عصاميا وهو نادر في موريتانيا بمعنى عالم يستخرج العقيدة الصحيحة والمصير النهائي للإنسانية وانفراد المولى عز وجل بالتصرف في الإنسان فيما وراء الحياة إلى آخره.
ولذا فإن التاريخ الحقيقي للسكان الشناقطة وسلوكهم يجعل الشفيـق عليهم يداوم الطلب من الله أن يعفوا عنهم وأن يتجاوز عن مضمون عقائدهم وعن سلوكهم الذي جعلوا منه حاجزا سميكا بينه وبين حفظهم الممتاز للقرآن ولكنه الحفظ الممتاز فقط.
فنحن جميعا، وهذا يجب أن يعترف به من شمال موريتانيا إلى جنوبها ومن غربها إلى شرقها كانت عقائدنا وسلوكنا الإسلامي ميراثا من الآباء وتـقـليدا للبيئة بدون أي مراجعة لما جاء في هذا القرآن مبـينا وموضحا.
فقد اتخذنا سلوكا في العبادة موازيا لما جاء في القرآن وفي أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة بالرغم من حفظنا الجيد لنص القرآن.
فما سوى أركان الإسلام الواردة في حديث جبريل عليه السلام فقد اتخذناه موازيا للإسلام بعد نزول [اليوم أكملت لكم دينكم] إلى آخر الآية.
فأذكار الصباح والمساء المنصوص عليها في الصحيحين جعلنا مكانها أذكارا أخرى منسوبة إلى رجال ولدوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم بكثير وهذه الأذكار معها نوافل من الصلاة ونوافل من الصوم وألفاظ من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مخالفة للصلاة عليه صلى الله عليه وسلم التي علم للصحابة كيفيتها بالنص إلى آخر ما نعرف جميعا ولا داعي لتأكيد عدم أخذه لا من القرآن ولا من السنة والكارثة الكبرى في الآخرة ما وراء تـلك الأفكار من العقائد.
فالعقيدة التي كنا وما زال كثير منا يحملها هي الكارثة الكبرى لأن مضمونها لا يعنيه ما ورد في القرآن من مصير هذه الإنسانية التي يخاطبها القرآن بألفاظه العمومية في القرآن، فالذي يعنيها من ذلك الخطاب العمومي هو قوله تعالى [كل نفس ذائقة الموت] أما [كل نفس تجادل عن نفسها]، [من يعمل سوء يجز به]، [من عمل صالحا من ذكر أو لأنثى وهو مؤمن فلنحيـنه حياة طيبة]، [يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا] إلى آخر الآية [ولقد جئتمونا فرادى] إلى آخر الآية، كل هذا لا يعنى الموريتانيـين حتى أن بعضهم لا تعنيه [إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون] فهم لا يخافون من الآخرة لأنهم سيكونون في سياج هم ووسائطهم وسيعاملون في ذلك السياج معاملة خاصة كأنهم وحدهم المعنيون بقوله تعالى [لا يحزنهم الفزع الأكبر] إلى آخر الآية هذا طبعا من عقائدهم إن لم يكونا جميعا فالأغلبية، ولا سيما العامة منهم يعتـنقون هذه العقيدة، وأي فرد من بني آدم يحتاج للأكل والشرب في الآخرة كما يحتاج لها في الدنيا.
ومن المؤسف جدا أن علماء بحورا في العلم في جميع أطراف موريتانيا هذه عقائدهم فلم يبـينوا للعامة سبب عدولهم عن الأذكار النبوية الصحيحة إلى هذه الأذكار الموازية لها حتى يطمئن قـلب المتـتبع على مستـقبـل آخرته.
ومن المعروف كذلك أن المسلم الموريتاني لا يعرف سبب العدول عن مصرف الإنفاق في سبيل الله الوارد في القرآن بالنص إلى المصرف الجديد الغني الثري كما نعلم جميعا.
فهذه الفترة الممتدة من القرن السابع أو الثامن الهجري إلى يومنا هذا كان من المفروض إسلاميا على هاتين القـناتين أن تـتـدارك فيها السير على الطريق المستقيم وذلك بالرجوع إلى فحوى آيات الله البينات التي تفضل الله بحفظها حتى لا تتكرر المأساة العقــدية.
فـتـقوم هاتين القناتين بمراجعة جميع برامجها المسموع والمشاهد ويكون التركيز على البحث عن الدين الخالص في القرآن حتى يعود قلب الموريتاني مثـل قلب إبراهيم عليه السلام الذي سأل الله أن لا يخزيه يوم البعث: [يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى بقلب سليم]، وقد استجاب الله دعاءه يقول تعالى [وإن من شيعته لإبراهيم إذ جاء ربه بقلب سليم] ولاشك أن السلامة هنا هي عدم وجود ما سوى الله في قـلب إبراهيم.
فبرنامج إعراب القرآن أولى منه تفسير القرآن بإظهار ما فيه من الإشارات والمعاني والحجج الدامغة المخاطبة للإنسان والمبينة تبـيـيـنا واضحا لمصيره الأخروي.
فما هو موجود من التفسير في البرامج مثل: جواهر التفسير أو تفسير إمام الجامع هو تفسير حسب مدلولات ألفاظ اللغة العربية والمراد تفسير مطابق لعبارات المولى عز وجل وإظهار تفاعل الكلمات مع عقائد ومصير حياة الإنسان.
فمثلا قوله تعالى [ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوء يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا] فهذه الآية تـنسف مجرد الأماني لأي كائن من كان وتنسف تدخل الأولياء والأنصار لأي كائـن من كان.
وملخص هذه الملاحظة على هاتين القناتـين الدينيتين المسموعة والمرئية أن عليهما أن ينتهزا هذه الفرصة التي قد لا تـتـكرر وينظر إلى الأوليات التي تقرب المسلم من دينه الخالص ولينـتبهوا أن أكثر خصومة في الآخرة كما نوه بها القرآن كثيرا بين التابع والمتبوع والتي سوف تكون أمام الله عز وجل سوف يكون للشعب الشنقيطي النصيب الأوفر من هذه الخصومة.
ونحن لا نحتاج أن أذكر جميع من له صلة بهاتين القناتين أن توليهما لهذا العمل ووضع الإمكانيات تحت يدهما هو امتحان لهما.
وهنا يقول الله تبارك و تعالى [يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله] إلى قوله تعالى: [وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا].