"ما فائدة الدنيا الواسعة، إذا كان حذاؤك ضيقاً"
و مرت خمسة و خمسون عاما على قيام الدولة المستقلة سحبت خلالها أذيال دهرها على المنظومة التعاملية و الأخلاقية و لم تفلح في أن تجعل أيا منهما يلحتم بمنصة الواقع العالمي الجديد الذي كاد أن يكون معظمه قد اتحد مع كل معطى العولمة و إن من دون القضاء مطلقا على خصوصيات شعوبه رغم كثرة أعراقها و تنوع لغاتها و معتقداتها.
إنها ذات الخمسة و الخمسين عاما التي انقضت على "استقلال" عَديد دول القارة و قد رزحت كلها تحت نير نفس الاستعمار الفرنسي استطاعت خلالها و بإرادة مواطنيها و توجيهات قادتها و المفكرين من أبنائها و السياسيين و نخبها العلمية آن تغير في العمق من تفكير و عقليات شعوبها قبل ملامحها حتى تفتحت أمامها أسباب موازنة الماضي مع الحاضر فاستطاعت حفظ الهوية و الخصوصية الحضارية بموازاة القدرة على تبني الحداثة المتوازنة التي أمدتها إلى ذلك بمنطق العلم الحديث الرافض عوائق الخرافية و الجزافية القسرية الجامدة في القوالب التي لا يراد لها أن تتزحزح أو تتبدل.
هي الخمسة و الخمسون عاما كذلك التي عرفت خلالها مسيرةُ البلد كبوات أقل ما فيها أنها لم تكن لجواد التقدم و نفض غبار التخلف؛ كبوات أليمة تسببت في تأخر مرير عن ركب الأمم و منها التي في الجوار قبل سواها، و عدم التوجه عند المنطلق إلى عدم محاربة عوائق التنمية و مثبطاتها الحقيقية رغم مقدرات البلد الهائلة و موقعه الإستراتيجي على ثلاثة أصعدة شكلت لما تجمعت لبلدان أخرى أسباب التطور و الانفتاح على العالم من حولها و العلم و التوجه بجدارة و اقتدار إلى آفاق التنمية المستديمة، فأما :
ـ الأول فـ"حضاري" حيث تقع البلاد عند ملتقى الحضارات العربية و البربرية و الزنجية الثلاثة مما أهلها لأن تكون و تدعى "همزة الوصل" و "أرض الرجال" و "أرض الرباط" و "بلاد المليون شاعر" و قد هيأ ذلك أسباب نشر الإسلام السني، المالكي الأشعري في غرب إفريقيا و أسس لدولة المرابطين في المغرب على يد الفاتح يوسف "بن تاشفين" مبعوثا من أبي بكر بن عامر،
ـ و ثانيها فـ"ثقافي" حيث تلاقح الحضارات و اختلاط الألوان أوجد نمطا فريدا من الثقافات المتفتحة بين الأجناس و قربها من بعضها إلى حد تمازج لا تخفي حقيقته السحنة و العادات و التقاليد و نمط العيش رغم محاولة هروب البعض من أصحاب نظرية "نقاء العرق" منها و تغطيتها بالنزعات و الصدامات العنصرية و محاولات إلغاء الآخر عبثا و ما اختلق و تمادى فيه من اتباع توزيعة طبقية مهينة،
ـ و أما ثالثهما فـ"استراتيجي" بحت متمثلا في إطلالة بهية و امتداد معتبر على شاطئ من المحيط الأطلسي يزخر بأكثر مناطق العالم مواءمة لتكاثر أجود أنواع الأسماك و الرخويات و غيرها، و بمخزون كبير من النفط و الغاز، ناهيك عن وجود نهر صالح للملاحة النهرية يربط دولا ثلاثة هي موريتانيا و السينغال و مالي و يسقي على ضفتيه أرضا بكرا ذات خصوبة عالية.
و لكنه دون هذا كله تقاصرت الهمم و غابت الإرادة الوطنية، و من منطلق ضعفها، عن الإحاطة بأهمية هذه الأوجه و عن استثمارها لصالح بناء صرح قوي يأوي و يحمي و يسعد شعبه في عصر لا مكان فيه للضعفاء من ظلامية و كسل و استغراق في جهل مفهوم الدولة. و إذ الشواهد على ذلك تترجمها مظاهر التخلف و غياب البنى التحتية الملائمة لأية عملية تنموية تدار، فإن مظاهر التغطية على ذلك من خلال الحراك الخجول للنخب الثقافية و السياسية، لا ترقى إلى أي مستوى يحسن السكوت عليه. إنها النخب:
· المثقلة بتركة ماضي يأبى أن يترك للحاضر مضماره للانطلاق إلى محطة المستقبل،
· و الاختلالات البنيوية العميقة التي لا يبذل أي جهد لمواجهتها و لا يمارس أدنى عمل لتفكيك مسبباتها و تصور حلولها؛ هي النخب إذا التي :
· أدركها و التف حولها مبكرا جدبُ القيام المُعد و الموجهِ بقوة الاستشراف المحكم من طرف منظري المستعمر الفرنسي،
· و أوجدها زمن الحزب الواحد الذي هيمن بواسطة المنظومة الاجتماعية و التوازنات الإثنية،
· و لم تهذبها الإيديولوجيات على اختلاف مشاربها و عمق تغلغلها في النسيج السياسي الحركي،
· و استوعبتها الانقلابات العسكرية حتى باتت أكثر عسكرة و أشد سطوة و انفرادية بالموقف و القرار.
نخبٌ رأت ذاتها كاملة الصورة، مكتملة الرضا و مدركة كامل الاسترخاء في العزوف و النأي عن تطبيق معارفها الجمة ـ التي حصلتها في جامعات و معاهد العالم ـ على أرض الواقع مؤثرة الخلود إلى الراحة المعرفية المخملية الكسولة فلم تُسرف في كبير الجهد الذهني إلا في المحاضرات الكلامية ذات الصبغة البلاغية في رحاب الآداب بكل أوجهها و لوازمها و الفلسفية بكل تعقيداتها و التاريخية الممجدة لحقب يكتنفها الغموض و تتشابك في مجريات أحداثها كل التناقضات الموزعة بين الواقع و الخيال، و كأن أمر بناء قواعد التنمية العلمية الفنية و تشييد معالم الرقي و ما يتطلبانه من جد التخطيط و الدراية و التطبيق و المتابعة و التصحيح و التحسين و التطوير لا يعنيها البتة بقدر ما يعنيها أن تظل فقط ترفل، بعناوينها الكبيرة التي زينت و وطدت علاماتها الارستقراطية، في حريرِ و سندسِ و إستبرقِ الموجودِ من خيرات البلد و مقدرات الأرض و النهر و البحر.
و أما النخب السياسية فحدث عن غياب دورها المنوط به تغيير المجتمع في العمق ليلائم مقتضى العصر من ناحية، و في السلوك حتى يشارك بصفته و وصفه مجتمعا ناضجا و فاعلا أولا للتحول الإيجابي، لا مفعولا به للإبقاء على الأرستقراطية السياسية المركبة من وصيفاتها من منحدر التركيبة التقليدية بكل أوجهها و التي لا تقل سلبية عن النخبة الثقافية المتدثرة ثوب الجمود و تسخير المواطن و البلد لنزواتها.
و بالطبع فإن النخبة من أهل المال و دائرة الاقتصاد و أصحاب اليد الطولى على كل مصادر مقدرات و خيرات البلد و سياساته الاقتصادية و الملية التي لا تستجيب ـ بما هم عليه من النهج الاستلابي التبذيري ـ لنداء الوطن و إنما لجمع المال البسيط بكل الوسائل التي منها استغلال الحضور الطافح و التأثير السلبي داخل دوائر القرار و التسيير من ناحية، و انتهاج سياسات التجمعات الارستقراطية القبلية و الاثنية الضيقة و "المافيوزية" المنظمة و غيرها من التي تتجه رأسا إلى نهب أموال البلد و تبديدها في ظل ما تسببه هذه الآفات مجتمعة من غياب التوجه الملح أو الإرادة التي تسعى إلى أن تؤسس منه لأدنى قدر من اللبنات و القواعد الاقتصادية و الصناعية تشكل إطارا تستوعب من جهة أخرى جزء من الشعب، تشغله، تكونه و تؤمن له حياته ضمن سعي أوسع إلى المشاركة في بناء الوطن و إعطاء استقلاله معنى و مدعاة يصبح بها احتفاء الأمة به عيد انعتاق و عطاء و عدل، واردا و واجبا كل عام.