ذكريات من أزمن الهوان
3. هاهي"الصنگه" بعد فرقة دهر
مكثنا ليالي في تجكجة، ومنها أُخِذنا إلى المذرذرة (وتدعى أيضا "الصّنگه") عبر نواكشوط وروصو، حيث تم تحديد إقامتنا من جديد في ضيافة حاكم المقاطعة الشيخ سيد أعمر ولد سيدنا.. وفي "رعاية" حارس أهلي ظريف هو محمد ولد الهلال رحمه الله.
ورغم أني رأيت نور الحياة بـ"الگسم" على بعد أميال جنوب شرق المذرذرة، فإني لم تكن لي معرفة تذكر بتلك المدينة التي دخلتها فجأة للتمدرس وأنا صبي، وتركتها عندما هربتني والدتي وأخوالي من مدرستها التي لم أكمل فيها الفصل الأول من السنة الابتدائية الأولى، وادّعوا وفاتي بسبب الملاريا التي أصابتني، واقتصرت علاقتي بها بعد ذلك على العبور قاصدا السنغال أو قادما منه. ثم لما توظفت كتب علي الجلاء عنها وعن الأهل. وها أنا أعود إليها الآن مغلوبا.
هنالك ذكريات صغيرة عن المذرذرة ما تزال راسبة في قاع الذاكرة، منها نصاعة وجمال الأوقية الورقية المتعامل بها يومئذ، ولذاذة الخبزة الساخنة التي تشترى بتلك الأوقية من مخبزة أهل الصبار الحطبية، والشيخ أحمد سالم ولد بيباه معلم العربية في القسم الابتدائي الذي لقننا أبياتا من منظومة ابن عاشر في العقيدة، و MONSIEUR محمد يسلم ولد معاوية معلم الفرنسية في نفس القسم الذي علمنا الأبجدية الفرنسية وشيئا من Mamadou et Bineta، والثلاثة منازل التي أطوف بينها وبين القسم الداخلي فأنعم بحنان أمهات ثلاث: "الأم بنت حمادي" (منزل أهل امببو) "عيشه بنت مانو" (منزل أهل الببان) و"مريم بنت المعلوم" (منزل أهل المعلوم). ثم متجر محمد الأمين ولد بشار الذي آخذ منه حاجاتي الصغيرة على حساب والدي، رحم الله الجميع.
كانت المذرذرة يوم عدنا إليها منفيين تتألف من "العلب" و"الكود" أساسا. وكانت رغم عراقتها وقدم تأسيسها ومكانتها بصفتها قاعدة إمارة الترارزة، ورغم قربها من عاصمة الولاية (60 كلم) ومن عاصمة البلاد (أقل من 150 كلم) معزولة ومتخلفة جدا؛ لحد أنها تشترك في بعض الخصائص مع تشيت. وقد يعود ذلك إلى رصيدها الطويل في التمرد. إذ من محيطها خرج الإمام ناصر الدين ثائرا على الإمارة وعلى تجارة الرقيق التي يمارسها النصارى في إفريقيا وعلى اضطهاد أولي الأمر للرعية. كما أنجبت السلطان محمد لحبيب الذي حالف مملكة والو وحارب فيدرب وهدد سان لويس مرارا. وعلى خطى محمد لحبيب السنية درج أحفاده بياده وسيدي وأحمد ولد الديد. وإلى المذرذرة ينتمي كذلك - في عصر الدولة الموريتانية- الأميران المهاجران محمد فال ولد عمير والشيخ أحمدو ولد سيدي والشيخ محمد المختار ولد اباه؛ وهي أيضا مهد الكثير من قادة الحركة الوطنية الديموقراطية والكادحين كمحمذن ولد باگاه وأخيه محمد رحمه الله، والمفيد ولد الحسن، ومالكيف ولد الحسن، والحسن ولد الحسن (د. حسن) ويسلم ولد ابن عبدم، وأحمد ولد خباه وأخواته؛ خاصة بنت حيبلتي رحمها الله وفاطمه، ومحمذ باب ولد امين، وأحمد ولد امبيريك، ومحمدْ ولد إشدو رحمه الله، والشيخ أحمد ولد محمذ فال وأخيه بليل، والتجاني وعبد الله ابني كريم، وأحمد سالم ولد التا، وإسلمو ولد سيدي، والحسن ولد الطالب، ومحمد سالم ولد محمد سيديا (ميماه) والنامي ولد محمد الأمين، ومحمد المختار ولد السعد، والمختار بن محمذن وأخويه محمد مختار ومحمدو (د. محمدو ولد امين) وبابه ولد ابگ، وغيرهم. يضاف إلى ذلك أن أمير الترارزة حبيب ولد أحمد سالم كان على علاقة متأرجحة بين الشد والجذب مع النظام؛ وخاصة بعد مؤتمر "آوليگ" الذي دعا إليه قبائل الإمارة لتكريس نفوذه، فرأت فيه الدولة تحديا لتوجهاتها وسياساتها التقدمية. وآلت الأحوال بالأمير إلى الرحيل عن المذرذرة ومحيطها "احسي المحصر" وتأسيس قرية لبيرد في ضواحي روصو. وبرحيل الأمير عنها أصبحت المذرذرة يتيمة. وفوق هذا وذاك فإن مخيال قبائل الزوايا المقيمة في أحياء متنقلة بضواحي المذرذرة؛ والتي تعيش على تنمية البقر وجني الصمغ وتجارة المفرق في السنغال، وتكره حياة المدينة وما ينتج عنها من علاقات وطباع تتنافى مع ما درجت عليه هي صاغرا عن كابر، لا تحتفظ لحاضرتها بغير المقت، وكون العالم والأديب الصالح محمد ولد أحمد يوره قد "حبسها" لما حبسه الفرنسيون فيها على خلفية تعليق شعري نسب إليه يتهكم بطريقة نقل أحد ضباط الجيش الفرنسي القتلى في معركة لگويشيشي الخالدة.. وبالتالي فلا يرجى لها تقدم في اعتقادهم أبدا. وقد مر بالمذرذرة (الصّنگة) أيضا الشيخ حماه الله في طريقه إلى المنفى. وترك فيها مقدمين.
وجاءت ظواهر الجفاف والتصحر والبطالة ومرور سنتين من القهر والضياع لتضيف تجاعيد أخرى في جسم تلك الأميرة.. نعم، لقد انتقل الجيل المؤسس للصّنگه إلى رحمة الله مثل سمتّ والبو ولد إفكو ومحمد سالم ولد ابراهيم فال وأبهم وبلال الجولي والخو ولد الشيخ وامبارك اللوصاي ورائعة ويالي وريحانة بنت إشرطان والصبار ومحمد جيل ودهابو.. إلخ. وما عاد أعلام (علماء وشيوخ وشعراء وفنانون) عرفناهم فيها وفي نواحيها يملؤون الدنيا ويشغلون الناس من أمثال محمذ ولد ببها ومحمد سالم ولد ألما والمختار ولد المحبوبي والمختار ولد ابلول وأحمدو ولد محمد محمود (ابن فتى) وأحمد سالم ولد بيباه والشيخ سعد بوه والشيخ الطالب بوي والشيخ اباه ولد بابه والشيخ محمد عبد الحي، ومحمد ولد ابنو وابوه ولد لسياد ومحمد ولد انكذي وابنه عبد الرحمن وأحمدو والمختار ابني الميداح.. ولكن الطامة الكبرى هي هجرة الكثيرين من سكان المدينة ونواحيها تحت وطأة الجفاف ونفوق البقر وهلاك غابات القتاد والطلح والبشام وما واكب ذلك من ركود وشدة، وبسبب إكراهات دراسة الأطفال - وخاصة البنات- في نواكشوط وروصو أيضا. إذ لم تكن حتى ذلك الوقت توجد إعدادية في تلك المقاطعة.
ومع ذلك، فقد ظلت معالم شامخة في بعض أطراف المدينة كشيخها وقاضيها حامد ولد ببها، وكأديبها وحافظة تاريخها وأمجادها أحمد ولد اعلي ولد الميداح رحمهما الله وبقايا مما ترك آل موسى وآل هاون.
وأثناء تلك الإقامة - السجن بـ"الصّنگه" اشتد مرض والدي رحمه الله ودخل مستشفى نواكشوط فسمحت لي وزارة الداخلية - بعد لأي- بالحضور إلى نواكشوط، ومنها سأحدثكم عن شيء من الماضي القريب.