في بلد ما زالت تُثار على منابره الثقافية القليلة ـ وسط درجة مثيرة من تدني وعي المتلقي في مستواه العام و حساسية الجلد المفرطة عنده و نفسيته الموغلة في "الماضوية" عند تناول جوانب تاريخ البنية الاجتماعية أو المسارات السياسية منذ نشأتها، و بتباين مسف و محبط في الطرح و التحليل
و ضعف التبرير المقيد عند أغلب المؤهلين ـ مسائل من قبيل إشكال نشأة الدولة التي لم يُحسم أمره بعد، في الأذهان و في الخطاب و السلوك الوطني و في الممارسة و التصرفات المدنية و السياسية، و لم يصل حتى إلى أقل مراحل "الثقة بنضج" بالدولة و ديمومتهاdurable et fiable l’Etat من لدن المثقفين و السياسيين، كما لا يزالُ قائما التفتيشُ عن قابلية بقاء هذا "القيام" و وسائل ز منهديات النفاذ إلى "تجذيره" و ترسيخ "توازنه" كيانا ما زالت تحوم حوله من داخل النخب شكوك "صدق النشأة" و "منطقية المسار" و "قيام الوجود"؛ فإنه بهذا الوضع الفكري الأعرج لا يُسألُ عن غيابِ أو على الأقل الحاصلِ من ضعف المستوى المعرفي و العلمي الذي يسُوقُ إلى ترجيح هذه المفاهيم و اعتبار تلك المرحلة القاصرة التي يراد لها أن تُجيب عن سؤال ما إذا كان الذي يعيش في كنفه أهلُ البلد بكل ما هو متاح له بقدرتهم أو بمساعدة الأقدار، يستمدون منه تعريفهم و يخوضون داخل فضائه بكل خلافاتهم و مساعيهم على أوتار تمايزهم التي ما زالت تنتمي إلى زمن انقشع غباره عن جل الأمم من حولهم، و باختلافاتهم و خلافاتهم العقدية و السياسية يضرمون بها نيرانهم على السلطة أية سلطة منذ الاستقلال لاستدرار مزاياها المادية جاها و مالا و نفوذا و فسادا.
تظاهرتان تقاسمتا زمن يوم الاثنين، إحداهما في الصباح و نظمها في مبادرة لافتة و قيمة مكتب اليونسكو بنواكشوط حول "مقترح إستراتيجية وطنية حول البحث العلمي في موريتانيا بأفق 2025"، و الأخرى نظمها في المساء مكتب "مبدأ" تحت عنوان "موريتانيا الدولة.. بين رهانات التأسيس ومتطلبات التجذر"، و هما التظاهرتان اللتان كشفتا النقاب عن وضع معرفي عام قاصر عن دفع عجلة الالتحام بمحطة العصر و عن شديد تعثر مساره المفتقِدِ عند محاولاته الإقلاع إلى جناحي المنهجية و العلمية.
و أما التظاهرة الأولى حول البحث العلمي فقد كشفت، رغم المستوى الجيد للعرض المقدم من طرف خبير اليونسكو من القاهرة حول واقعه و خطة تطويره، و المداخلات القيمة التي أعقبته و أثرته ساقها عديد الأكاديميين و الخبراء و المختصين و حضور مهتم، أن موريتانيا لا تتمتع بتجربة و خبرة ذات وقع و تأثير في عموم المجال البحثي رغم نفي البعض لذلك معتمدا وجود قليل من البحوث لا يغني من نقد قد يكون محفزا إلى مضاعفة الجهد، و لا يسمن من جوع كبير تحسه البلاد و هي لا تستفيد في مفارقة عجيبة من كل ما تزخر به و تجود أرضها المعطاء من وسائل و مقومات التنمية:
· من معادن كثيرة، نفيسة و نادرة،
· و إطلالة ميمونة على الأطلسي و ما تحويه أعماقه من مقدرات محيطية متنوعة منها السمك و البترول و الغاز و محميات طيور مهاجرة من كل القارات و أنواع و فصائل من الفقمات المهددة بالانقراض،
· و احتضان ضفة نهر صالحة للزراعة في كل المواسم،
· و ثروة حيوانية بملايين الرؤوس من إبل و بقر و ضأن و معاز،
· و غير ذلك من محفزات و مبررات و موجبات البحث العلمي في كل هذه المجالات و ضرورة تطبيقات نتائجها للاستفادة و تطوير و صيانة و ترشيد كل هذه المقدرات و من تطبيق غيرها في المجالات المتعلقة بالعلوم الإنسانية و التاريخية و السياسية. حقيقة مؤسفة محبطة و واقع مرير مخل لا يبررهما إلا ما يكون من العزوف عن العلوم التطبيقية و الانزواء عن مشقة تطبيقاتها و جهد رعاية نتائجها؛ عزوف لا يبرره هو الآخر إلا ما يكون من ضعف الإيمان بالدولة و ضرورة الحفاظ عليها بالعطاء العلمي و التنمية الميدانية.
و إنه مما لا شك فيه مطلقا أن ضعف البنى التحتية الملحوظ الذي لا يشهد التحسن المطلوب و لا يصاحب بالنتيجة وتيرة تقدم ما فتئت تفرضه حركة العالم من حول البلاد و منها التحول المضطرد الذي تشهده البلدان المجاورة على اعتبار الروابط العميقة و المتداخلة بينها و التخلف عنها يضاعف تقهقرها و يعري كل نقاط ضعفها من عجز عن الأخذ بالعلم الحديث و يدق ألف مسمار و مسمار في صرح بناء متباطئ الخطى و رسوخ الكيان الذي كان منه حتى أوصل إلى هذا الحد الذي يحتاج دفعا بمنطق العصر و أدواته في رحاب الديمقراطية الحقيقية.
و أما التظاهرة الثانية فقد قدمت عروضا عالية الجودة متكاملة الحلقات بعضها لأمس الأكاديمية المجردة من العواطف و المجاملات أحاطت بكل جوانب الموضوع. و لم تكن المداخلات التي أعقبتها بأقل التحاما بالموضوع و إثراء لجوانبه المتشعبة و متناقضاته المثيرة. و لكن هذه العروض و المداخلات كلها جاءت في ذات سياق فتح الباب على مصراعيه لإذكاء جذوة بعض التشكيك نجاح قيام الدولة الحديثة القابلة للبقاء و القادرة على توفير مستلزمات مواطنة تشكو ضعف انطباعها في الأذهان و رسوخها في الممارسة و عجز عن بلورة رؤية موحدة حول وحدة البلد الوطن الحاضن و الميزاجية المشتركة للجميع دون تشابه الرؤى و التوجهات السياسية و الخطابات و الفلسفات الرامية إلى أحسن سبل التنمية و العدالة و الديمقراطية و البناء الذي يضمن الرخاء. تظاهرة و إن سعت من خلال نوعية التناول و سمو القصد، إلا أنها أبانت عن عمق الخلافات حول مسألة النشأة أو التأسيس و حول السياقات السياسية و التاريخية للمسار في جزئياته و عمومياته بدء بإشكال المقاومة بين حقيقتها عند البعض و وهمها عند الآخر و انتهاء بمسألة الاحتواء الإثني من "تندوف" إلى "الحوضين" إلى "أزواد" إلى "الضفة" في قراءة ما ورائية لا إجماع عليها و لا مهرب من تناولها بالنقاش و البحث و الاستنتاج. قضايا و أمور تختلف حولها القراءات و المواقف و التأويلات و الترجيحات في سياق الدولة و في الوقت الذي يجزم فيه البعض أنها تجاوزت مرحلة التأسيس و القيام، يرى البعض أن ذاك التأسيس يفتقد إلى الأسس المتينة و يحتاج إلى دعامات معدومة في ظل غياب مفهوم الدولة و العدالة الاجتماعية.