وهذا ما عبر عنه أبو إسحاق ألشاطبي بقوله:" إن هذه الشريعة المباركة عربية، والله تبارك وتعالى صرح بأن الحكم في الإسلام حكم عربي، كما قال تعالى في سورة الرعد:
﴿ وكذالك أنزلناه حكما عربيا﴾(142) ومعنى هذا أنه حكم نزل بلغة العرب ويجب أن لا يحاول فهمه إلا من حيث يفهم كلام العرب بدلالات كلام العرب.
ومن الجهل وقصر النظر أن يكون قصدنا من هذا الكلام المصطلحات المستحدثة في هذا العصر كعلاقة اللغة بالجنسية أو القومية ودعاوي الفصل ما هو قومي عربي وما هو مسلم لا قومي.على اعتبار أن اللغة مسألة قومية والدين رسالة سماوية تهم كل الذين يدينون به، بقطع النظر عن جنسياتهم وقومياتهم في سائر أقطار الدنيا، وبدت هذه الحجة كافية _ـ ظاهريا _ لبعض المتربصين بوحدة الأمة الإسلامية (143) كي يدقوا إسفين الخلاف والتعارض بين الإسلام ولغة القرآن، أو بين الناطقين بالعربية وغير الناطقين بها من المسلمين.
أكذوبة ربط اللغة بالجنس أو القومية:
ويفند الدكتور أحمد بن نعمان هذه الحجة من خلال النقاط التالية:
1_ إن اللغة ـ بالفعل ـ هي أكثر ارتباطا بالقومية من الدين بصفة عامة ومن الإسلام بصفة أخص لأنه دين للبشرية قاطبة كما هو معلوم، وأن الدين واحد، بينما لغات العالم متعددة، ولكن هذا الأمر إذا كان صحيحا بالنسبة للغات الأخرى، فإنه غير صحيح مع اللغة العربية بالذات، لأنها مرتبطة بالإسلام ارتباطا عضويا" كما أسلفنا
2_ـ إن هذا الوضع المتميز للغة العربية جعلها ذات وظيفة مزدوجة سيرتها بالمنظور القومي (ألائكي) لغة قومية للعرب وحدهم، لكنها بالمنظور الديني الإسلامي لغة قومية لسائر المسلمين. بقطع النظر عن جنسياتهم السياسية " إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون"(144)
ولا وحدة ثقافية حقيقية لأي أمة بدون وحدة حقيقية في دينها ولسانها.
3_ـ الانتماء القومي لأي شعب في الدنيا لا يرجع إلى كون هذا الشعب منحدرا بالضرورة من عنصر أو عرق واحد، وإنما يرجع إلى الانتماء أو الاندماج الإرادي لهذا الشعب في الثقافة المتبناة، ولا دخل في هذه المسألة لخرافة السلالة والعرق التي أبطلها العلم فضلا عن الدين الإسلامي بالذات، الذي نهي عنه عن حمية الجاهلية الأولى.
4_ـ إن أكثر من 90% من أفراد المجتمع العربي الحالي، أي المجتمع الإسلامي الناطق بالعربية هم خارج الجزيرة العربية، وبالتالي فهم مسلمون قبل أن يكونوا عربا.
وبعبارة أخرى فهم عرب لأنهم مسلمون وليسوا مسلمين لأنهم عرب، ولا عروبة ـ عندهم ـ بدون إسلام؛ أي ما كان للعالم العربي الحالي ولا للحضارة الإسلامية المعروفة في الشرق والغرب أن يوجدا لولا أمثال عقبة بن نافع، وموسى بن نصير، وطارق بن زياد، وعبد الرحمن بن رستم، ويوسف بن تاشفين، وابن تومرت.. وغيرهم من الذين عربهم الإسلام فأوجدوا ما يعرف اليوم بالعالم العربي، وبعبارة أخرى أدق العالم الإسلامي الناطق بالعربية(145).
لقد أوردنا هذه الفقرة لنبين مدى تهافت الأفكار القومية الناتجة عن الغزوات الفكرية المدمرة والتي تظهر في آلاف الكتب والدراسات العربية. فزيادة على محاربة الإسلام باسم القومية (للائكية) لدى بعض العرب غير المسلمين, فإنك تلاحظ أيضا محاربة العربية ظاهريا باسم الإسلام، وباطنيا باسم النعرات العرقية والنزعات القومية، والسياسات..التي ظهرت كإحدى بواكر الغزو الفكري والثقافي لوحدة المجتمع الإسلامي. ومن غير المعقول أسلمة من يكره اللغة العربية ويحاربها حتى وإن تخفى وراء الشعارات المعروفة ”نحن مسلمون وكفى”، ونحن عرب ولا يهم أن نكون يهود أو نصارى أو مسلمين.
والمخرج الوحيد لتفادي هذا الغزو الانشطاري المدمر لوحدة الأمة الإسلامية يمكن بوحدة اللغة إلى جانب وحدة الدين. ولذالك يجب أن توضع هذه اللغة فوق مستوى القوميات شأنها شأن كتابها المقدس القرآن الكريم..
والآن عزيزي القارئ بعد أن عرفنا واقع العقل وعرفنا قدرته الإنتاجية وطريقته التفكيرية وأيقنا بوجود تشريع سماوي منزل من عند الله سبحانه وتعالى, عرفنا أن هذا العقل هو الذي اهتدى إليه, وانه لا يمكنه أن يستقل بمعرفة الله ولا أن يهتدي إليه إلا إذا صحبه في تطوافه الى تلك الغاية قلب, يتلقى عنه كل مدركاته فيحيلها عواطف وأحاسيس تشيع في النفس روعة وجمالا.
ورأينا أن الإنسان عقل وعاطفة، فليس هو عاطفة فحسب ولا عقل فقط، بل هو الإثنان معا. والعاطفة هي المحرك، والعقل هو الموجه.. وهذا ما يقتضيه منهج الفطرة.
وسلكنا معك عزيزي القارئ جميع الطرق الفكرية المؤدية إلى معرفة هذه الفطرة المركوزة في النفس البشرية وان هذه الفطرة التي فطر عليها الإنسان، بما عنده من غرائز وحاجات عضوية، دافعة إلى البحث والتنقيب عن الوسائل التي تروي وتشبع حاجاته وغرائزه، في فقه طبيعته أو عليه أن يفقهها..
وأن العقلاء من الناس لايجدون صعوبة في رؤية مركوزية الفطرة من خلال أحوال الناس وسلوكهم، فالمريض الذي أضناه المرض، ويئس من الحصول على الشفاء، إلى من يلجأ ؟ والفقير الذي لايجد مايكفيه، ممن يطلب حاجته؟ والمكروب الذي ضاقت به الدنيا على سعتها،ممن يسأل الفرج؟
هؤلاء وغيرهم ممن انقطعت بهم السبل إذا نظرت إليهم وقد تعلقت أبصارهم بالسماء ولسان حالهم يخبرك بما يختلج في صدورهم من صدق التعلق بالمحبوب كمشاعر داخلية عميقة تنزع بهم إلى اللجوء إلى من هو أقوى منهم..
وتتبعنا معك هذه المشاعر الداخلية بالملاحظة الدقيقة ووجدنا أن أقواها الإحساس بوجود الله تعالى والرغبة في الخضوع له وكأنها أمر جبلي فطر عليه.
وتوصلنا إلى هذه الحقيقة بالبرهان واستطعنا أن نحل هذه العقدة الكبرى، لأنه بحلها تحل جميع العقد عند الإنسان. وأن مسالة حل هذه العقدة الكبرى فيها ناحيتان:
احدهما: الناحية العقلية، أي المتعلقة بالعقل، في نفس التفكير الذي يجري..
والثانية: متعلقة بالطاقة الحيوية التي في الإنسان، أي بما يتطلب الإشباع، فالتفكير يجب أن يتوصل إلى إشباع الطاقة الحيوية بالفكر. وإشباع الطاقة بالفكر يجب أن يأتي عن طريق التفكير بنقل الواقع بواسطة الحواس إلى الدماغ.
وأنه اذا جاء الإشباع بالتخيلات والفروض، أو بتعبير ما هو واقع محسوس، فإن الطمأنينة لا تحصل، والحل لا يوجد.
وإذا جاء التفكير بما لا يوجد الإشباع أي بما لا يتفق مع الفطرة، فإنه يكون مجرد فروض او مجرد إحساس، فلا يوصل إلى حل تطمئن إليه النفس، ويوجد الإشباع. فحتى يكون الحل حلا صحيحا للعقدة الكبرى، يجب أن يكون نتيجة تفكير حسب الطريقة العقلية وان يشبع الطاقة الحيوية وان يكون جازما بحيث لا يترك مجالا لعودة التساؤلات: من أنا؟ وما هذا الوجود؟ والى أين المصير؟.
وبهذا يوجد الحل الصحيح. ويوجد الاطمئنان الدائم لهذا الحل ومن هنا كان من أهم أنواع التفكير: التفكير بالكون والإنسان والحياة، أي التفكير بحل العقدة الكبرى حلا يتجاوب مع الفطرة الذي يحصل به إشباع الطاقة الحيوية، ويكون جازما بحيلولته دون رجوع التساؤلات السابقة..
وقد تحل العقدة الكبرى حلا خاطئا إذا ترك للطاقة الحيوية وحدها أن تقرر.
فالإنسان بشعوره بالعجز فانه يحاول إشباع ما يتطلبه الإشباع ويملأ أجوبة التساؤلات المصيرية. ولكن....يتواصل..