تختلف الشعوب و الأمم عن بعضها في كل مركبات مسطرة العادات و الأخلاق و المعتقدات و اللغات ما يبرر تفاوتها في التعاطي مع مستوجبات متطلبات الحياة من جهة و فهم مجريات الأحداث التي تؤثر في كيانها و ترسم ملامح مستقبلها و منها بالتحديد "السياسية" لأهميتها القصوى حيث يرتكز عليها
كل توازنها و يعتمد كل استقرارها و يتشكل كل نضج مسار التقدم فيها و ينبني كل استشراف مستقبلها. و لأن السياسة بهذا الحجم أو بوصف أدق بهذه الجوهرية فقد باتت بعقود قبل الاستقلال:
· فرسا لتفاهم ظل عصيا بين أهل البلد باختلاف إماراتهم السلطوية و زواياهم العلمية و "مشيخاتهم" الروحية و مملكاتهم الزنجية،
· و حوض انفتاح جديد متنوع و متسع الآفاق على العوالم من حولهم يستقون منها مفاهيم لم تكن تخطر لهم على بال كالقومية المنفصمة عن المعتقد و أيديولوجيات أخرى أخرجت العقول من قمقمها الضيق و فتحت الأذهان على وضعية اجتماعية و سياسية و اقتصادية لا تليق بالدولة الحديثة المعلن عنها و ترنو و أهلهُا إلى تعددية الرأي في رحاب الديمقراطية و العدل.
و هو الاتجاه العام الجديد الذي إن غير و بشكل كبير في ظاهر العقليات و خفف من حدة السلوك و غلظة اللفظ و فظاظة المعاملات، إلا أنه لم يفلح مطلقا في قضم قدر دانق أو أقل من ذرة من سطوة النظام "السيباتي" الراسخ في باطن العقول و الرابض في متن السلوك الانتهازي، التسلطي و الارستقراطي الإقطاعي الطبقي في حِل مُطلق من أي وعي متوازن للتعاطي السياسي النبيل. و لا أدل على ذلك من إخفاق الحركات السياسية النضالية ـ بمختلف مشاربها و توجهاتها، و طيلة فترة نضالها رغم الزخم الكبير الذي وجدته و قد أوهم بالتغيير العميق في العقليات ـ في سعيها إلى ثني حزب الشعب الواحد الذي ولد مع الدولة، عبر الفكر المتنور الذي تحمله و تَحَررِهِ من بوائق الماضي، عن اتباع مسار الأحادية و حكمها الذي ظل ممسكا بالسلطة حتى أودت به حربُ الصحراء الضروس بعدما قوضت شبه مسار التنمية المحاصرة يومها من جفاف دام عقودا و من قلة صارخة في الأطر البشرية المتعلمة و المهنية العلمية و من سياسية تتميز ببعد الرؤى المتنورة الناضجة. و لم تكن الأحكام العسكرية التي تلت بأفضل حالا حيث هضمت قادة الحركات و انتظمت بها في تناوبها في تبريرات واهية و تمويه بالكاد يخفى على غير مبصر حتى لشرعية الحكم. فتارة كانت القبعة بلون القومية القطرية العربية، و تارة بلون الإسلامية الناصحة و المطبقة شرع الله، و مرة أخرى بثوب العلمانية المبشرة بالتحرر من عقد الماضي و بالسعي إلى لحم البلد بركب الأمم المتفتحة على المعارف و العلوم و المتنورة بصائب الفكر المطلق من ظلامية الماضي مع صيانة أوجه التميز الإيجابي على خلفية المعتقد الصحيح.
و لأن البلاد لم تعرف في سجل تاريخها مطلقا مظاهرات مطلبية ضد الاستعمار بعيدة عن هبة الجهاد و المقاومة الأولى و التي خمد آخر طلق لها في العام 1932 بعد معركة "وديان الخروب" المجيدة تحمل بذور رفض شديد للاستعمار و رغبة "نهضوية" من أي درجة تكون أو ما إلى ذلك من محفزات الوعي النافذ و مسببات التحول بآثار على الميدان تترك أثرا في السلوك و تطرق الأذهان و تذكرها وقعا بضرورة مواصلة المشوار إلى آفاق الدولة المدنية المواطنة المتحررة من كل معادلات المخلة للماضي و كوابحه المقيدة و الكل على خلفية لمعان أسماء مناضلين و بفضل أطر تنظيمية حزبية عريقة قيمة الخطاب و نقابية ضارب نضالها في عمق الروح الساعية إلى بناء الوطن المكين من خلال إتباع مبدأ الحوار البناء المنصت إلى صوت الاختلاف و النابذ لغوغائية الخلاف؛ حوار متمدن دائم يرضخ لقانون مقارعة الفكر النهضوي بالفكر التنويري إلى غايات الرقي السياسي الديمقراطي.
و جاءت من بعد محنتي الانقلابات و رضوخ الأيديولوجيات لمبتغيات الانقلابيين محنةُ الفساد الذي طغى على أيدي دعاة بقاء الأوضاع على ما هي عليه من تكريس سافر لـ"السيبة" مفهوما و عقلية و ممارسة متمثلة في الإبقاء على قوالب الماضي الحاضر، و إن على أشكال جديدة تتقمص أوجها مغالطة من الانسجام مع روح العصر، لتكرس ما كان من غبن و إقصاء الشرائح الأكثر هشاشة و التي عانت في الماضي من النظام الطبقي، و الفساد بالاحتواء على مقدرات البلد من خلال تولي مهام تقاسمه و تدبير سياسته.
و بطبيعة الحال فإن كل الحراك السياسي بحصر ما هو موجود و قائم من أطره الحزبية و منظمات مجتمعه المدني يدور في فلك هذه "السيبة" المتخفية التي تَبَدلَ جلدُها و ثوبُها دون قلبها و أهدافها. و ليس عدم قدرة هذه الأطر على تبني الحوار نهجا لنبل غاياته و مقاصده إلا نوعا متقدما من الحوار على نسق "السيبة" حيث التناوب على المواقع العالية و القيادية في هيكل السلطة المحققة بعض التوازن العرضي عندها مسألة توافق على خلفية التوافق لمنع كسر جرة منعة الجميع بقبول التناوب على ممارسة الحيف الممنهج ضد القواعد العريضة و غبن نسبي و مؤقت للأنداد. حوار مقوماته عرجاء لوفاق حتمي على تقاسم السلطة و قوة الحضور و النفع المادي و سحق القواعد العريضة.
و إن نظرة متفحصة للمشهد السياسي ـ بما يعاني اليوم من التناقضات حيث أن السجالات الكلامية النارية لا يوازيها إلا ما يكون من الهدوء الحركي الذي ينفي قيام الوجود ـ لا بد أن يقتنع بأن قطبي الأغلبية الرئاسية بأحزابه المتفاوتة القوة و المكانة و المنتدى الديمقراطي بخليطه الثقيل، السياسيين اللذين تنضوي تحت لوائهما أغلب الأحزاب و يربو عددها على الثمانين، لا ينفكان عن التحاور و هما يدركان أن الحالة بما هي عليه طبيعية في قاموس فكر"السيبة" و عقلية أهلها التي تتخذ من شعار "يوم ما هلك زُوزُ" متكأ للصبر على المرحلة، و في ذات الوقت أن يظل النقاش حول ضرورة قيام الحوار قائما له خوار، حتى لا تنفلت الأمور إلى مساحة العنف و حتى تبقى شعرة الأمل في بقاء التناوب على قاعدة حوار اللاحوار المفضية إلى نتائج أي حوار يأمل بعض أطرافه في التناوب، و إن تطلب الأمر انتظار ما تخبؤه الأقدار رغم:
§ تباين تركيبة المنتدى الديمقراطي التي تضم أحزابا متفاوتة الأحجام، متباينة القيمة التاريخية، متعارضة بنسبية ملحوظة في الخطابات و الطموحات و الرؤى من ناحية، و هيئات مختلفة من المجتمع المدني و النقابي و الحقوقي "المسيسة" كلها إلى النخاع و متن لا يجد أرضية مشتركة يبني عليه الجميع موقفا موحدا و نافذا من الحوار،
§ و انسجام قطب الأغلبية المتعدد الأحزاب هو كذلك، المختلفة الأحجام و المشارب و الايديولجيات، و لكنها المنسجمة كلها و المتماهية بشدة لا مشروطة مع سياسة و توجه الحزب الحاكم و من دون تسجيل أي تميز أو اتخاذ أي موقف أو تحفظ يؤشر على تبادل صحي و بناء للآراء و المواقف،
و إن كانت كل الأحزاب في القطبين سقطت كلها من بروجها العالية و تداعت أركان بعضها المكينة بسبب الوعي الذي لم يعد حكرا على النخب الحزبية و إذ أصبحت نخبا ممنوعة في مجملها من الصرف و عصية على الإعراب فيما البلد يستعصى هو كذلك و لو ببطء على تحول إيجابي إن لم يحصل فسيتعرض لانتكاسة كل أسباب وقوعها تكمن فيما هو إبقاء منذ النشأة على منهج "السيبة" التي شملت الفكر و طالت السياسية، أجار الله البلاد منها و هيأ لها نخبا جديدة تشع بياضا و تزدهي نقاء و عفة و حبا في الوطن و قدرة على بنائه.