تحوّلت الكثير من دول المنطقة في العقدين الأخيرين إلى فضاءات مضطربة؛ أسهمت في انتعاش وتزايد الجماعات المسلحة والمتطرفة؛ وهو ما ينطبق على العراق وسوريا وليبيا والصومال واليمن.. فيما استهدفت هذه الجماعات بعملياتها "الإرهابية"عدداً كبيراً من الدول، وهو ما تطرح بصدده الكثير من الأسئلة؛
في علاقتها بالعوامل المغذية للظاهرة والسبل الكفيلة باحتوائها.
إن "الإرهاب" هو استعمال منظم للعنف بشتى مظاهره المادية والمعنوية بشكل يثير الرعب والخوف؛ ويخلّف خسائر جسيمة في الفئات والمنشآت والآليات المستهدفة بغية تحقيق أهداف سياسية أو شخصية؛ بالشكل الذي يتنافى وقواعد القانون الداخلي والدولي.
يطرح "الإرهاب" تحديات وإشكالات كبرى أمام المجتمع الدولي برمته؛ بالنظر للتداعيات الأمنية والسياسية والاقتصادية التي يفرزها؛ فالعمليات التي طالت عدداً من البلدان على امتداد مناطق مختلفة من العالم خلال العقود الثلاثة الأخيرة؛ أكدت أن مخاطر الظاهرة يمكن أن تتجاوز أحياناً مخاطر الحروب النظامية؛ بالنظر لجسامتها وفجائيتها واستهدافها لمنشآت استراتيجية ومصالح حيوية ولخسائرها البشرية الفادحة..
فبعدما كانت العمليات "الإرهابية" تتم وفق أساليب تقليدية وتخلف ضحايا وخسائر محدودة في الفئات والمنشآت المستهدفة؛ أصبحت تتم بطرق بالغة الدقة والتطور مستفيدة من التكنولوجيا الحديثة، الأمر الذي يفرض بلورة جهود على قدر من الشمولية والتنسيق الدولي.
تربط الكثير من الأبحاث الميدانية؛ العنف بمختلف مظاهره وأشكاله بالسلوكيات التي يكتسبها الفرد داخل محيطه الاجتماعي، ولقد اهتمت التشريعات السماوية كما الوضعية بهذا الموضوع؛ وحاولت الحدّ من تفاقمه وتناميه داخل المجتمعات؛ غير أن الظاهرة واصلت انتشارها؛ وظلت جلّ المحاولات الرامية إلى التحكم فيها محدودة الأثر.
تؤكد العديد من الدراسات أن العوامل المغذية "للإرهاب" متعددة ومتباينة في خلفياتها وأسبابها؛ وتختلف بين عوامل ذاتية وأخرى موضوعية؛ وإذا كان الحد من تصاعد الظاهرة يتطلب اعتماد مقاربة شمولية فاعلة؛ فإن استحضار الجانب التربوي في علاقته بالتنشئة الاجتماعية؛ بصورة تسمح بتحصين شخصية الفرد ضد أي فكر متطرف؛ وتجعله مؤمناً بالحوار والاختلاف والتسامح.. يعد مدخلاً أساسياً أيضاً لمحاصرة هذه الآفة.
تحيل التنشئة الاجتماعية إلى التفاعل المجتمعي الذي يمكّن الفرد من اكتساب مجموعة من القيم والسلوكات التي تمكنه من تنمية شخصيته وتطوير قدراته العقلية ومنحه الثقة في نفسه؛ ودفعه نحو التكيف الإيجابي مع محيطه المجتمعي.
إنها عملية منظمة ومستمرة؛ تقودها مجموعة من القنوات التقليدية والحديثة؛ والتي تتوخى إعداد الفرد طيلة مراحل حياته؛ ليكون كائناً اجتماعياً ؛ من خلال التربية والتلقين والتعليم.. وبواسطة مجموعة من الرسائل والقيم الاجتماعية بكل مضامينها الثقافية والروحية والفكرية والنفسية.. ومن المفترض أن تسهم في بلورتها مجموعة من القنوات؛ سواء تلك التي يجد الفرد نفسه بداخلها تلقائياً كالأسرة والمدرسة..؛ أو تلك التي تتاح له فيها إمكانية الاختيار؛ كما هو الشأن بالنسبة للجمعيات والأندية والأحزاب السياسية..
وجدير بالذكر أن الهامش المتاح للقنوات التقليدية المرتبطة بالتنشئة الاجتماعية (الأسرة؛ والمدرسة؛ والمسجد..)؛ أصبح يضيق بفعل التحولات الدولية الأخيرة؛ وبروز قنوات أخرى عابرة للحدود؛ تروج لقيم اجتماعية ولثقافة "معولمة" من خلال وسائل الإعلام والاتصال الحديثة والمتطورة..
يشكل العنف و"الإرهاب" ثورة على كل القوانين والضوابط الدينية والتشريعية والأخلاقية؛ وممارستهما هي تعبير عن إلغاء العقل وعن العجز في الدفاع عن الآراء والمواقف بسبل موضوعية وحضارية.
وتتباين العوامل المغذّية للإرهاب؛ بما يجعل من احتواء هذه الظاهرة المتنامية أمراً لا يخلو من صعوبات وتحديات؛ وإذا كانت المقاربة الأمنية والقانونية والاقتصادية.. تفرض نفسها في هذا الشأن؛ فإن استحضار العناصر التربوية والاجتماعية التي تعد التنشئة الاجتماعية أحد ركائزها؛ يعدّ أمراً حيوياً؛ لارتباطه ببناء شخصية الفرد وتربيته على قيم الحوار والاختلاف واحترام حقوق الآخرين..؛ بما يحصنه ضد ارتكاب أعمال العنف بكل مظاهره وأشكاله..
يعبّر "الإرهاب" في أحد جوانبه عن وجود اختلالات وانحرافات على مستوى التنشئة الاجتماعية التي يتلقاها الفرد داخل المجتمع؛ والجدير بالذكر أن المدخل القانوني والأمني وعلى أهميته؛ يظل قاصراً في الحد من هذه الظاهرة الفتاكة.
تفرض هذه المعطيات مجتمعة على جل القنوات المعنية بالتنشئة الاجتماعية والتربية؛ وعلى رأسها الأسرة والمؤسسات التعليمية والقنوات الإعلامية؛ أن تتحمل مسؤولياتها في تطوير وتأهيل أدائها باتجاه بلورة تنشئة سليمة؛ كفيلة بتحصين النشء ضد كل انحراف وعنف وتطرف تحت أي إكراه اجتماعي أو اقتصادي.. والاهتمام بأمر التنشئة يظل استثماراً ناجحاً ورهاناً موفقاً نظراً لارتباطه بالعنصر البشري الذي يعتبر أساس ومركز كل تنمية وتطور حقيقيين.
والتنشئة المطلوبة هي تنشئة اجتماعية بنّاءة قادرة على صقل سلوك الفرد؛ من حيث تربيته على قيم المواطنة والمسؤولية والحوار والاختلاف.. وكفيلة بقتل الميولات العدوانية عند الفرد؛ وتصريف طاقاته وقدراته لخدمة نفسه ومجتمعه؛ وإشعاره بالأمان والطمأنينة ودفعه للاندماج داخل المجتمع.
إنها عملية يفترض أن تتم وفقاً لمناهج وأساليب واعية بعيدة عن الارتجال والعشوائية، كما يفترض أن تقوم على التعلّم وبناء مواطن منفتح مستقلّ في قراراته؛ واثق في نفسه وقدراته.. ومندمج في مجتمعه في إطار من الضوابط والقيم والمعايير..
وهي تنشئة ينبغي أن ترفق وتعزز أيضاً بتأهيل اقتصادي واجتماعي يكفل العيش الكريم للمواطن؛ بما يحصنه ضد كل فكر متطرف ويسمح بمحاصرة العنف في جذوره، وتظل هذه المهمة معقدة وصعبة المنال؛ طالما لم تتجنّد لها مختلف القنوات المعنية بحزم وبسبل عقلانية وحديثة..
إن غياب أو تغييب مختلف القنوات المعنية بالتنشئة عن ملامسة القضايا المجتمعية التي تندرج ضمن اهتماماتها؛ واقتران ذلك بإكراهات اجتماعية مختلفة؛ من شأنه أن يحدث فراغاً؛ قد يفتح الباب على مصراعيه أمام بعض القوى المتطرفة التي تشتغل في السّر؛ لتستقطب أفراداً غير محصنين فكرياً وتربوياً ودينياً.. وتوجههم نحو ارتكاب أشكال متباينة من العنف في حق أنفسهم وفي حق المجتمع برمته.
حفظ الله بلادنا.