تعيش العاصمة منذ بداية شهر نوفمبر أجواء حافلة بعديد التظاهرات الثقافية و السياسية تنظمها المراكز الدراسية و الروابط و النوادي و أطر أخرى مهتمة بالشأن الثقافي السياسي يحضرها كلها عديد الشخصيات الوازنة في الحقلين.
و هي التظاهرات التي تدخل في مجملها ضمن إطار عام للاستعدادات لاحتفاء بالذكرى الخامسة و الخمسين لعيد الاستقلال.
و لما أن هذه التظاهرات قد لامست أشجان الماضي من خلال إثارة إشكال مقاومة وطنية غابت طويلا عن السجل الثقافي للدولة الناشئة، فإن مجمل هموم الساحة السياسية المتأزمة و ميدان التنمية الذي يغيب عنه بشكل ملحوظ و مؤثر للتخطيط العلمي و "الحكامة" المؤسسية الرشيدة.
تظاهرات و إن أبانت كذلك عن تطور شبه نوعي في العمل الثقافي الذي كان إلى عهد قريب جدا مفتقرا بشدة إلى الوعي و النضج، فإنها لم تأخذ بعد نسقا تربويا و علميا يرفع وتيرة النضج و يؤمن تجاوز مراحل التأتأة والتعثر و غشاوة النرجسية المتولدة عن ظلامية فكر الفوضى.
و لأن الوعي بهذا الوضع، المتولد من رحم تخلف عن ركب التحضر لا يخفي خافية، لم يرق بعد و بأي جهد يذكر إلى مستوى يدفع إلى الثقة بتحقيق أدنى مكسب يفتح أول الطريق إلى محطة العولمة و يضبط إيقاع المشاركة في فضائها الذي أصبح مشتركا بموروث ثقافي منقح من الشوائب و حامل علامات و أبعاد الخصوصية و التميز. هي العثرة الكأداء التي تقف بوزنها حائلا أمام تخطي سلبيات الماضي و تمنع من تناول جرعة الشجاعة المطلوبة التي تجاوزت عقدتها كل الأمم و الدول من حول البلاد حتى باتوا يجنون ثمارها من تفتح و نزاهة فكرية، و من تحقيق لمكاسب نوعية و بناءة شملت الفكر و العقل و غطت السلوك و التنمية و دعمت المسارات و الممارسات الديمقراطية و عززت الحكامة و رفعت وتيرة التنمية و العدالة.
و المتتبع لهذا الحراك الذي حمل في تناقض شديد ازدواجية القيام و ضعف المحتوى و غياب نوعية الأهداف لا بد أن يقف أمام حقيقة مرة تخفي في طياتها مرارة وهن اللحمة و ارتخاء حبل التواصل بين قوميات البلد التي يجمعها المعتقد و تقربها منظومة أخلاق و عادات متفقة في الجوهر و غنية بالاختلافات الثقافية التي تثري الاحتكاك و التبادل و تصنع جسور التواصل الصلبة. حقيقة مرة و مقلقة تعمق الهوة و تضعف وحدة الأمة أمام تحديات التنمية و العدالة. فلا يكاد يخفى على هذا المتتبع ما يكون من غياب المكونات الزنجية في كل التظاهرات التي يظهر فيها المكون العربي و العكس صحيح وإن قلت تظاهراته و كأن المتناول من المتاح من مواضيع و هموم لا يعني الجميع في سياق البلد الواحد و الشعب الموحد. و لإن كان لهذا عزوف أسباب تتعلق بالشعور بالغبن و الحيف إلا أن ذلك لا يبرر إتباع سلوك انغلاق على الذات و توان سلبي عن الحضور و المشاركة و الحوار و الإدلاء بالرأي الحر و الإفصاح عن المواقف و الدفاع عن القناعات. تقوقع على الذات و رفض للمشاركة يثيران ارتيابا شديدا في الوسطين الثقافي و السياسي بقدر تمكينهما لأطراف أخرى من ملء الفراغ الذي يسببه هذا الغياب و دق إسفين النعرة الفئوية الإقصائية و تقريب البلاد أكثر إلى هاوية التباين بين القوميات و تقريب شبح الشقاق. كما أنها التظاهرات المتنوعة بمناسبة إحياء ذكرى الاستقلال الوطني التي تناولت في بعضها قضايا ثقافية و تاريخية و سياسة تسيء في مجملها إلى حرية الفكر وتضعف حدة أمل البلد و لحمة مواطنيه و تقوض أي سعي حثيث إلى الخروج من بؤرة التخلف المزمنة و العمى الثقافي المطبق و الأزمة السياسية الخانقة.