أثبتت المعطيات التاريخية وتطورات الأوضاع السياسية في بلادنا منذ 55 عاما وقراءة المؤشرات الأمنية والاقتصادية وتداعياتها الاجتماعية والمعيشية التي وصلنا اليها الآن ، أننا اليوم في حاجة أكثر من أي وقت مضى إلى مشروع جديد للدولة الوطنية يحقق اندماجا اجتماعيا جديدا ويتجاوز الإخفاقات
المتراكمة في التوصل الى آلية حكم توافق المتطلبات الداخلية للتناوب السلمي على السلطة وتتماشى مع الاكراهات الخارجية في تطبيق الديمقراطية وذلك بعد أن فشلت كل تجاربنا السابقة من إنقلابات وانتقال ديمقراطي وانسلاخ للأنظمة في إخراج بلادنا من أزمتها الخانقة ،وبعد أن انتشرت دعوات العنصرية البغيضة والاصطفاف العرقي والفئوي واجترار الماضي والانفصال بين أفراد شعبنا و منظماته وحتى أحزابه السياسية والتي تدفعنا دفعا نحو الانفجار الاجتماعي و المصير المجهول وتحقيق هذا المشروع يتطلب في الأساس كسب ثلاثة رهانات أساسية:-
أولا: كسب رهان محاربة الرق ومخلفاته :على الرغم من أن العبودية كانت متفشية في الحضارات القديمة لدواعٍ اقتصادية واجتماعية وكانت نظاما إنتاجيا يلائم نمط الحياة آنذاك.
وعلى هذه الرقعة من كوكبنا و في زمن مجتمع اللادولة ضمنت العبودية للكثيرين البقاء على قيد الحياة بغض النظر عن أصولهم ومع مطلع القرن التاسع عشر بدأ العالم يتخلى عن الرق تدريجيا لكن بلادنا لم تملك الجرأة المطلوبة لمواجهة الحقائق التاريخية والاعتراف بممارسات استعباد الانسان لاخيه الانسان واتخاذ الخطوات والآليات الكفيلة بالقضاء نهائيا على هذه الظاهرة ومخلفاتها النفسية والاقتصادية والاجتماعية والتخلص من العادات والعقليات المكرسة لها والضرب بيد من حديد لكل المتورطين في أي نوع من انواع ممارستها في الوقت الراهن.إن بناء الدولة الوطنية وتطويرها والحفاظ على امنها الداخلي وترسيخ وحدتها الوطنية وتحقيق العدالة الاجتماعية لن يتم الى من خلال تحويل اكبر شريحة اجتماعية مغيبة فيها الى شريحة متعلمة ونشطة .
ثانيا: كسب رهان ترسيخ الديمقراطية التعددية والتناوب السلمي على السلطة:إن المتابع للشأن الوطني يلاحظ شبه إجماع على الحاجة الماسة لإرساء ديمقراطية تعددية تشاركية تضمن التناوب السلمي على السلطة. ونحن اليوم مطالبون بفتح حوار وطني شامل بين كل القوى والتيارات الوطنية الحية, حوار يكسر الجمود السياسي لدى القوى المعارضة التقليدية ويغير الأيديولوجيا التقليدية لها المعارضة بالفطرة ,حوار يخرج النظام من ثكناته العسكرية وتقوقعه على نفسه في زمن لم يعد لجدران الخرسانة المسلحة فيه اي دور لا في الدفاع ولا في الاختباء ,حوار يتخلى فيه كل الاطراف عن الشروط التعجيزية والمماطلة لصالح المصلحة العليا للوطن ,حوار يفضي إلى إصلاحات دستورية و ديمقراطية تعالج المشاكل البنيوية في هيكل الدولة وتعيد تأسيسها على أسس جديدة بحيث نحدد هويتنا الوطنية انطلاقا من ديننا الحنيف الذي هو المكون الرئيسي لحياتنا وثقافتنا وحضارتنا, الهوية الجامعة والغطاء العام لكل المواطنين التي ستعكس الانتماء الاسمى وتجب ما دونها من انتماءات مناطقية وقبلية وإثنية ,حوار يؤدي الى بناء دولة وطنية حديثة تعكس التعدد العرقي والمناطقي في السلطة والثروة.
ثالثا:كسب رهان الرُقي بالتعليم: في الوقت الذي يُقاس فيه تطور الأمم والدول من خلال جودة نظمها التعليمية يتفق جميع الموريتانيين على أن التراجع في مجال التعليم سمة من سمات بلادنا وذلك نتيجة لتراكم وترسب عدة أزمات ومشاكل منذ عقود .ونحن ليوم بحاجة ملحة إلى إصلاح تعليمي متفرد في جوانب وعناصر العملية التربوية برمتها ،إصلاح يفضي إلى إرساء أسس مدرسة الإنصاف وتكافؤ الفرص والجودة والاتقان ,اصلاح يحقق الوحدة اللغوية في المركز والتنوع في الاطراف ,إصلاح يحقق تمييزا إيجابيا لآدواب ولكصور لاستدراك الحرمان من التعليم لقرون , اليس من الديمقراطية والعدل ان ينال الذين توارثوا الجهل أبًا عن جدٍّ حق التعلم أكثر من الذين توارثوا العلم و احتكروه.
لقد آن الأوان ونحن نحيي الذكرى 55 لاستقلالنا الوطني ان نفكر مليا في التخلص من الدولة الملفقة اوالمنطقة العازلة بين عالمين كما يحلو للبعض تسميتها ,دولة النسخ ولصق التي ورثناها من المستعمر الإفرنجي البغيض وان يبزغ نجم الدولة الوطنية الموريتانية الحديثة على ارض تلاقي الحضارات وفي سماء منطقة أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.
وانا على يقين أننا سنتجاوز كل الصعوبات وسننجح في بناء الدولة المحورية وقلب المنطقة النابض ونضمن بذلك مستقبلا زاهرا لنا ولشعوب المنطقة و تتحول " موريتانيا"همزة الوصل الى همزة قطع تلج بها حناجر شعوب العالم .