ضيف وقضية (3) / الأستاذ محمدٌ ولد إشدو

التعريب.. والعروبة
ومن الأمور التي حكمت الدولة الناشئة أيضا إدخال تعليم اللغة العربية مباشرة بعد مؤتمر ألاگ؛ وهو ما غاظ موراك رئيس الوزراء (وكان المختار نائبا له) فكتب مشعرا إدارته بأن نائب رئيس الوزراء لديه أفكار قومية ستؤثر على مستقبل فرنسا؛ لا في موريتانيا وإنما في إفريقيا الغربية كلها. وفعلا عُيِّن في تلك الأيام مفتش أفغاني يدعى عكاري

(أنا أسميه صاحب الغليون الكبير) كان ضمن المساعدة الفرنسية، وعين لتنظيم وتعميم التعليم العربي. ولا شك أن ما قام به في موريتانيا كان ثورة ثقافية. أدخل كتب النهضة العربية إلى موريتانيا فأنشأ مكتبة كبيرة تحوي كل كتب النهضة في سندونه بسان لويس حيث كانت الإدارة آن ذاك. جاب أرجاء موريتانيا كلها، ونظم المسابقات لنيل شهادة الكفاءة للتعليم التي عرفت بالعكارية؛ وهي مسابقة يمنح الفائزون فيها شهادات تخولهم ممارسة التعليم.
أنا ترشحت سنة 1958 ولم أنجح، وفي ذلك أخاطب المصححين بأبيات منها:
مقر بالجهالة غير أني ** صغير السن أعذر بالكثير
لكني ترشحت ونجحت عام 1959 فنلت الشهادة العكارية التي تؤهل لمزاولة مهنة التعليم، وكنت قد ترشحت في العام نفسه لبعثة القضاة ونجحت فيها ففضلت الأخيرة لما فيها من تدريب وتركت التعليم. وإذا كان كثير من الناس ربما يأسف لكونه صار معلما فإنني آسف على أن لم أكن معلما، لأني أرى التعليم مهنة نبيلة جدا.. كاد المعلم أن يكون رسولا!

لحسن: مع بداية الستينات 63 – 64 كانت بداية نشاطكم السياسي عن طريق حركة القوميين. كيف بدأتم ذلك النشاط؟
ذ. إشدو: أنا تأثرت بالفكر القومي فترتي في تونس أنا وشيخ لي وصديق هو الشيخ محمد سالم ولد عدود رحمه الله، كنا - من بين الجماعة كلها- ناصريين؛ أما هو فناصريته بدأت قبل ذلك إبان العدوان الثلاثي على مصر؛ حيث يقول:
ومدلة بالحسن قلت لها: اقصري ** إن الجمال جمال عبد الناصر!
وخلال وجودنا بتونس كنا نتابع سياسة هذا الرجل وإن كانت البورقيبية ضد الناصرية تماما آن ذاك. كنا نتابع سياسته؛ وخاصة دعمه للثورة الجزائرية وصموده ضد حلف بغداد. وحزِنَّا كثيرا على انفصال أول وحدة عربية بين مصر وسوريا، فقال الشيخ من قصيدة له:
ليس للرجعي فينا من نسب ** كل رجعي دعي في العرب
سوريا قد مزقت وحدتنا ** في انفصال.. لكن الوعدُ اقترب.
وتابعنا إعلان الميثاق القومي، وتابعنا أيضا تفكيك شبكة جواسيس إسرائيلية كانت تعمل بمصر، وللشيخ محمد سالم أشعار في تلك المناسبات منها:
باب السياسة مبهم لا يطرق ** والسمع منه محجب لا يسرق
عرف الجواسيس الذين تسوروا ** أسوار سرك أنها لا تخرق
إلى أن يقول:
وأرى المسلة وهي منك بعيدة ** ترنو إليك بمقلة تترقرق
يعني المسلة الفرعونية التي في شارع الشانزيليزيه (باريس).
كنا ناصريين لكننا غير منظمين.
في عامي الثاني بتونس تم اتفاق أفياه فجاء الأحرار الخمسة قادة الثورة الجزائرية رحمهم الله، توفوا جميعا إلا حسين آيت أحمد فأظنه ما زال حيا (أطال الله بقاءه إن كان حيا). القادة هم: أحمد بن بله،  وبو ضياف وخيضر وحسين آيت أحمد، ورابح بيطاط.. جاؤوا أثناء وجودنا هناك واستقبلناهم، استقبلتهم البعثة الموريتانية، وكنا نرفع الأعلام الموريتانية التي خطناها هناك، ووضعنا العلم الموريتاني والعلم الجزائري في باقة من الزهور، وكان يوما مشهودا في تونس. أحدنا يحمل العلم والآخر يحمل الباقة، أنا والشيخ محمد سالم وزملاؤنا إلى جانبنا.
في أواخر فترتنا هناك علمت بقضية اللغة العربية والتعريب ونقابة المعلمين العرب هنا فاشتريت كمية من كتاب يدعى "دفاعا عن اللغة العربية" لا أذكر مؤلفه الآن، وجئت به هنا وأهديته لتلك الجماعة (نقابة المعلمين العرب).

في القصر الرئاسي
في أواخر سنة 1961 كنا في العطلة فنظمت الإذاعة مسابقة لاكتتاب صحفي واحد، وكان مدير الإذاعة وقتها أستاذ الجيل أحمد بابه ولد أحمد مسكه، وفزت، لكنهم كانوا قد وعدوني بتدريب في الخارج؛ فقد كان الذهاب للتدريب إلى مصر أو لندن أمنية في تلك الأيام، وهذا ما أردته، لكنهم عدلوا عن التدريب فعدت إلى تونس لإكمال عامي الثاني، وبعد عودتي هنا فوجئت ذات يوم من أواخر 1962 باستدعائي من طرف وزارة العدل لإبلاغي بإعارتي إلى الرئاسة وتعييني مستشارا صحفيا برئاسة الجمهورية دون أن يكون لي ولا لأهلي دخل في ذلك! وخلال شغلي لهذا المنصب لقيت الرئيس المختار ولد داداه مرتين أو ثلاثا، وأذكر أنه كان خلوقا أديبا يحترم الناس، ورصيده المعرفي أكبر مما لدى الكثير ممن حوله، ولديه نظرة عن موريتانيا قل من يحملها.
لحسن: كم مكثتم مستشارا بالرئاسة؟
ذ. إشدو: مكثت حوالي سنة أديت فيها أعمالا من بينها كتابة بعض الرسائل، وأذكر أني كتبت خطابا موجها إلى الأمة في أحد الأعياد، واشتركت باسم الرئاسة في جريدتي النهار والحياة اللبنانيتين، فصارتا تصلان الرئاسة بانتظام، وبدأ الناس يقرؤونهما، وكان بالإمكان الطواف على انواكشوط كله في ساعة في تلك الأيام. حدوده الشمالية رئاسة الجمهورية وحدوده الجنوبية المنازل الواقعة دون قيادة أركان الحرس الوطني ومن الغرب المستشفى الذي لم يكن قد اكتمل، ومخبزة صنبه في موقع فرقة الموسيقى العسكرية، ومن الشرق الوزارات. فكان لتينك الصحيفتين تأثير ملحوظ.
وذات يوم من سنة 1963 انصرفت من عملي بالرئاسة، وكان الدوام وقتها على فترتين: صباحية ومسائية، فإذا بشاب يكبرني في السن ويبدو أنه طالِبٌ، يوزع منشورات، تناولت نسخة منها فوجدتها تتحدث عن معركة ترسيم اللغة العربية وهوية موريتانيا وما إلى ذلك، وكان ذلك عشية انعقاد مؤتمر لحزب الشعب الموريتاني.
قرأت المنشور وتعرفت على الشاب، وهو المهندس إسماعيل ولد أعمر، وكان طالبا حين ذاك بفرنسا وفي زيارة للبلاد، وآل بنا الأمر إلى تأسيس منتدى (أو خلية أو نحو ذلك) للدفاع عن هذه القضية، وتألف من خليط كان من الغريب التحاق بعضه به خلافا للبعض الآخر: الأستاذ عبد الله السالم ولد محمد نوح رحمه الله، والأستاذ لمرابط ولد ببانه رحمه الله، والسيد يربه ولد اعلي بيبه رحمه الله، وكان مدير الأمن في ذلك الوقت! وكانت لدينا راقنة واحدة وأصدرنا مناشير ووزعناها.
وقد حذف مؤتمر حزب الشعب هذه النقطة من جدول أعماله؛ ففي مؤتمره الأول سنة 1961 تم التطرق إلى ترسيم اللغة العربية والضمانات التي تمنح للأقليات القومية ثم أرجئت هاتان النقطتان إلى المؤتمر الأول بعد التأسيس، وكان يفترض أن ينعقد سنة 1962 فلم ينعقد نظرا لعدم اتفاق أعضاء اللجنة التي عينها المكتب السياسي لدراسة هاتين النقطتين، وفي عام 1963 لم يحصل اتفاق عليهما فرحلتا إلى المؤتمر اللاحق لكن السبب أن تجمهرا صار يجري أمام المؤتمر وفيه ملاسنات وصخب واصطفافات صريحة فرحلت النقطتان إلى المؤتمر القادم كما أسلفت. وانتهى المؤتمر فعدت أنا إلى مكتبي فوجدتني شطبت مباشرة من العمل هناك! وأعدت إلى قطاعي ففهمت الرسالة.

دراسة لغة موليير
حين حدث هذا نلت منحة لدراسة اللغة الفرنسية من طرف السفارة الفرنسية، وكان هنا نشاط لتعليمها برعاية هذه السفارة، وذهبت إلى فرنسا صيف 1963 لكني في طريقي إلى فرنسا اتصلت ببعض الإخوة اللبنانيين في السنغال، وعن طريقهم عرفت القضية الفلسطينية وعرفت حركة القوميين العرب، وطيلة مقامي بفرنسا كنت أقرأ كتابا ضخما لضابط أردني يدعى عبد الله التل تحت عنوان "كارثة فلسطين" ولم أهتم بدراسة اللغة الفرنسية، وحين عدت كنت قد ربطت علاقات بحركة القوميين العرب وكان أول عمل أقوم به بعد وصولي هنا هو تنظيم مظاهرة يوم 15 أيار / مايو سنة 1964 في ذكرى اغتصاب فلسطين، وكانت أول مظاهرة تطرح قضية فلسطين ويخرج فيها الشباب الموريتاني - الذي لم يكن كثيرا آن ذاك- مناديا بتحرير فلسطين، وجابت الشوارع تحمل لافتات أعدت في دار الشيخ محمد سالم رحمة الله عليه وإن لم يكن يحضر ذلك شخصيا.
في أواخر عام 1963 أيضا، وأنا من المعجبين جدا بالثورة الجزائرية والمساندين جدا لها، مثلت مع النائب خطري ولد بابه حمه (رحمه الله) الشباب الموريتاني في أول ذكرى بعد الاستقلال لاندلاع الثورة الجزائرية في فاتح نوفمبر. لم تكن توجد علاقة وقتها بين موريتانيا والجزائر، ولكن الحكومة الجزائرية الجديدة لا تعادي موريتانيا لأن موريتانيا في مؤتمر ألاگ رفضت الالتحاق بمنظمة أنشأتها فرنسا من أجل سلخ الصحراء الجزائرية، وفي بيان مؤتمر ألاگ دعت موريتانيا الوليدة فرنسا إلى الحوار مع جبهة التحرير الجزائرية والبحث عن حل سلمي لاستقلال الجزائر؛ وهذا ما جعل حكومة الجزائر توجه دعوة إلى موريتانيا، فقبلت الحكومة الموريتانية الدعوة ولكنها لم توفد أحدا من الرسميين وإنما ذهبت أنا والنائب المذكور ولقينا أحمد بن بله، وقد زرت إذاعة الجزائر وحصلت على تسجيلات لجميع الأناشيد القومية في تلك الفترة وعدت بها فأصبحت تبث من إذاعة موريتانيا هنا. المطربة الكبيرة عليُّ بنت أعمر تشيت ربما لا تعرف لماذا سميت عليُّ! لأني أتيت هنا بنشيد عليُّ التونسية – من ضمن ما أتيت به- ونال هنا انتشارا فوق العادة!
بني وطني يا ليوث الصدام وجند الفدا
نريد من الحرب وضع السلام وطرد العدى..
هذا بمناسبة حرب بنزرت.. وبدأت حركة القوميين العرب تنشط هنا. وأصدرت أنا وزميلي وخليلي الأستاذ أحمدو ولد عبد القادر آنذاك مجلة "موريتانيا الفتاة" من أطار حيث كنا نعمل.

8. ديسمبر 2015 - 9:46

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا