حرصت كغيري من المواطنين على زيارة المطار الجديد " نواكشوط ـ أم التونسي "، لا بغرض السياحة، وإن كانت المناسبة تستحق والمكان يصلح للفرجة والسياحة.. ولكن لأتمتع بالوقوف على لبنة أخرى من لبنات البناء والتحديث والتنمية في بلدي، ولأتحدث عن ذلك بلسان من رآى لا من سمع.. وسأختصر
انطباعاتي عنه في جملة واحدة، هي أنه مطار بمواصفات مطار دولي عصري، لمن يعرفون المطارات الدولية العصرية.. وإذا كنت سأضيف شيئا، فهو أن هذه المنشأة هي أول معلمة ذات أهبة ومعنى في بلدنا بالنسبة لي.
هذا المطار الذي بدأت مع بداية أشغاله، ورافقتها، حملات مسعورة من التشكيك والتسفيه، اشترك فيها المناوئون و بعض الإعلاميين، حيث أفردت جهات إعلامية مساحات من واجهاتها وتغطياتها للمطار، بعضها مركزا على مقارنته بمشروع مطار داكار، معددا الخصائص الفنية والسعة ومواقف السيارات وغيرها لكل من المطارين، مبينا ما يتفوق به مطار هذا البلد الجار على مطارنا الجديد، وبعضها الآخر متفرغا لصفقة المطار وتتبع " عثرات " الشركة القائمة على تشييده، مختلقا ما عجز عن إظهاره من تلك العثرات.. وقد اكتشفنا فيما بعد أن الأمر لا يعدو كونه " أمور ما " بين هذه الجهات الإعلامية والجهات القائمة على إنشاء المطار تتعلق أحيانا بالشركة المنفذة، وأحيانا أخرى بوزير النقل وقتها، أو تتعلق بالنظام بأسره والموقف منه ( الأمور والأساليب التي نعلمها جمعيها.. )!
أما المناوئون فقد كنا، ولا زلنا، نتفهمهم ولا مشكلة لنا معهم، فالألوان رغم تعددها وجمالها وتداخلها، إلا أنها بالنسبة لهم لونان، أبيض وأسود، الأبيض الناصع هو ما يقومون به وما يعتقدونه، أما الأسود الحالك فهو كل ما يتعلق بغيرهم، هم بمعزل عن نظرية النسبية وما أحدثته في الكون من تغيير للمفاهيم وطبيعة الأشياء.. مبدأهم، مهما كان وما سيكون، أن البلد يتخبط منذ ست سنوات وينحدر في السفه والارتجال والنهب والتدمير، وكل شيء بالنسبة لهم " عنز ولو طارت "! فماذا تملك لمن تُطيِر من أمامه الغراب يوميا، فيقول لك إنه ليس غرابا، وإنما هو عنزة ولو طارت؟!
بالنسبة لحجم وسعة المطار فلا حاجة بنا للمقارنات، ولا حاجة بنا كذلك لمنشأة ضخمة لن تكون مكلفة فحسب، بل ستبقى أغلب مرافقها غير مشغلة لسنوات قادمة، وذلك بحكم محدودية حركة الطيران والمسافرين من وإلى بلدنا حتى الآن، ويقول المثل المصري " على أد لحافك مد رجليك " فعلى قدر إمكانياتنا وحاجتنا فإن هذا المطار بحجمه وسعته الحالية يكفينا، وقد ترك المخططون والمنفذون له مساحات كافية لزيادة قدرته الاستيعابية ومواقف سيارته وكل ما يحتاجه من مرافق ومنشآت، إذا ما تطلبت حركة الطيران والمسافرين ذلك مستقبلا.. وليس من الضرورة، ولا من اللازم كذلك، أن يكون المطار الجديد نسخة طبق الأصل، أو مجسما لمطار هيثرو أو دبي أو أتاتورك.. فالقادم عبر مطارنا، كما سيرى سحنات وزيا ومناخا مختلفا، يجب أن يرى أيضا تصميما للمطار مختلفا..
أما بالنسبة لمدة إنجاز المطار التي صاحبها هي الأخرى لغط كبير، فإن من لم يكن يدرك ما تتطلبه المنشآت الكبيرة من وقت، وما يعترضها من عقبات وجوانب فنية لم تكن متوقعة تجبر القائمين عليها أحيانا على إلغاء مراحل من العمل وبدئها من الصفر، من لم يكن يدرك ذلك، فإنه عندما يزور المطار اليوم ويقف على كل منشآته ومرافقه وملحقاته، ويستحضر ما بذل في ذلك من وقت وجهد ونفقات، فلا بد أن يجد الجواب الشافي على تساؤله: لماذا تأخر المطار؟ مع أنه لم يتأخر كثيرا، فكلنا يعرف ما يتطلبه، وما يأخذه منه بناء بيته المؤلف من ثلاث غرف من وقت وجهد وعقبات ونفقات.. فكيف بمنشأة بهذا الحجم وهذه المواصفات لا تخصنا وحدنا، بل لهيئات وجهات دولية أخرى عيون عليها، ولن تقبلها وتصنفها إلا طبقا لمواصفات فنية دقيقة لا مجاملة ولا مساومة في تجاوزها.
وسيجد كذلك، بوقوفه على هذه المعلمة، ردا على أسطوانات اقتحم ضجيجها أذناه كثيرا، تقول إن النظام لا يريد شيئا إلا لنفسه ومقربيه..!
فسيجد أن من لا يريد شيئا إلا لنفسه ومقربيه لا يشيد المطارات والموانئ، ولا ينشئ مصانع بناء السفن وشركات الطيران، ويفرض حضورها في أجواء الإقليم التي كانت محتكرة من شركات نقل جوي أخرى، ولا يبني الجامعات والمعاهد ومدارس التكوين، ولا يشيد المستشفيات العامة والمتخصصة ويجهزها بلوازمها من الأسرة والأجهزة وسيارات الإسعاف، ولا يشق الطرق لربط مدن وأطراف البلاد، ولا يمد أنابيب المياه لمئات الكيلومترات عبر الرمال والصخور والأودية والسهول، ولا يشيد محطات الكهرباء وينوعها ويخطط لمدها شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، ولا يستصلح عشرات آلاف الهكتارات من الأراضي الزراعية، ويشق عشرات الكيلومترات من قنوات الري، ويوفر القروض والتسهيلات ليتضاعف ويتحسن الإنتاج.
من لا يريد شيئا إلا لنفسه ومقربيه، لا يجلس بين سكان القرى و " آدوابه " والأحياء المنسية في أعرشتهم وأكواخهم يستمع إليهم ويطلع بنفسه على ظروفهم، ولا يفكك ويخطط العشوائيات ويملك سكانها مئات ألاف القطع الأرضية ويزودهم بالخدمات، ولا يبني السدود والمدارس والمستوصفات لمن ظلوا إلى الأمس القريب على هامش الهامش، لا يعرفون هل ينتمون لهذا الوطن أم لوطن آخر، أم هم " بدون "..!
من لا يريد شيئا إلا لنفسه ومقربيه، لا يبني الجيوش والقواعد والمطارات العسكرية ويؤمن الحدود لحماية كل هذه المكتسبات، ولا يتجشم عناء الأسفار لإبراز دور بلاده والتعريف بها وإسماع صوتها وخلق وتعزيز مكانة لها، وربطها بشبكات العلاقات الدولية، ليثمر ذلك كله وتنعكس نتائجه على البلد اليوم أو غدا أو بعد غد، فمخطئ من يعتقد أن الأسفار هي مجرد متعة واستجمام..!
من لا يريد شيئا إلا لنفسه ومقربيه، يكمم الأفواه و يحل الأحزاب والجمعيات، ويصادر الصحف ويغلق القنوات والإذاعات ويراقب المواقع والشبكات، بل لا يسمح بتحريرها أصلا ل " يهنأ " بما لا يريده إلا لنفسه ومقربيه.. ومخطئ كذلك من يردد دوما أنه لم يعد بالإمكان السيطرة والتحكم في وسائل الإعلام وحرية التعبير، فلا زال ذلك بالإمكان بطريقة أو بأخرى، وتحت مسميات مختلفة.. وأكثر من يلجأ إلى ذلك عادة هو من لا يريد شيئا إلا لنفسه ومقربيه..
من لا يريد شيئا إلا لنفسه ومقربيه، لا يهتم عادة بنفض الغبار عن ماضي بلده والعناية برموزه وعلمائه وتاريخه وموروثه الديني والمعرفي، ويوفر له وسائل نشره وبثه عبر الفضاء والأثير بعد أن لم تكن " ظهور العيس " وسيلة مناسبة لذلك.. فلا عائدا ماديا مغريا، في هذا الجانب، يريده الشخص لنفسه ومقربيه!
كل هذه المكتسبات والانجازات هي طبعا لي ولك ولهم ولهن.. لكنها أيضا لرئيس الجمهورية الذي حتى لو وضع البلد كله في جيبه، فإن ذلك لن يمثل معشار ما تمثله له معنويا هذه المكتسبات والانجازات التي لن يتم الوقوف عليها اليوم أو غدا أو بعد عقود إلا وتم ذكره وتذكره.. وبذلك يكون البلد كله، وكل من سيستفيدون من هذه المكتسبات من سكانه حاضرا ومستقبلا، هم من جملة مقربيه.. فإذا كنا حقا محبين لوطننا ونريد له التقدم والازدهار، فليس من الإنصاف أن نحتكر تلك المشاعر والتطلعات لأنفسنا، ولنتخلص من هذه العقد والأوهام وندرك أن هناك غيرنا من يغار لوطنه ويخدمه ويرتاح لما يقدمه له، قد لا يكون ذلك بنفس الآليات والمقاربات التي نراها، لكن لن يتم التطرق لمجال من مجالات التنمية، إلا وظهر العديد من المقاربات والخيارات التي يكون العملي المتاح الممكن منها، الساد للحاجة أو جزء منها، هو دوما أفضلها..
تلك هي انطباعاتي عن المطار الجديد التي لا يسعني إلا أن أضمنها شكر وتهنئة شركة النجاح للأشغال الكبرى التي أشرفت على إنجازه، والتي " أخذت حظا من اسمها " ونجحت في إنجاز هذه الأشغال الكبرى.. وتغاضت وحلمت عن المشككين والمهاجمين إلى أن كشفت لهم الستار عن عملها وتركته يحدثهم عن نفسه..
أما ملاحظاتي فلن تكون متعلقة بالمطار نفسه بشكل عام، فمبانيه وتصميمه وحداثة تجهيزاته كل ذلك أعجبني، وأترك جانب تقييمه الفني للمختصين.. وستكون ملاحظاتي عموما مجرد اقتراحات قد يكون بعضها مبرمجا ومأخوذا في الاعتبار مستقبلا:
1ـ إن الهاجس الأكثر حضورا بعد اكتمال أشغال المطار ودنو موعد تشغيله، هو مدى القدرة على التحكم في صيانته ونظافته، إلا أنني لا أعتقد أن من أقام هذه المنشأة الحيوية لم يأخذ هذا الجانب في أول الاعتبارات، وسيستحدث له جهة تضطلع بهذه المهام، مستفيدا من الأخطاء والنواقص والتقصير الذي طبع عمل الجهات التي كانت مكلفة بصيانة ونظافة المطار القديم، الأصغر حجما والأسهل صيانة ونظافة رغم العائدات المعتبرة التي كانت تجنيها من تسييره..!
2ـ لقد كنت أفضل عبارة " مطار نواكشوط ـ أم التونسي الدولي " على العبارة المستخدمة حاليا " مطار نواكشوط الدولي ـ أم التونسي "
3ـ لاحظت غياب مساكن خاصة بعمال المطار بالقرب منه، إذ سيكون من الصعب على هؤلاء العمال ماديا وبدنيا، سواء كانوا موظفين أو رجال أمن أو حمالة، طي مسافة 50 كيلومتر يوميا جيئة وذهابا من وإلى المطار، فإذا كان ذلك لم يكن مبرمجا فينبغي برمجته والإسراع بإنجازه.
4ـ لقد بدت لي ملتقيات الطرق الدائرية المؤدية إلى كل من مبنى الركاب والجناح الشرفي ضيقة بعض الشيء، فهي بشكلها الحالي تلائم منشأة صغيرة، لكنها لا تتماشى مع منشأة كبيرة بحجم المطار وكثافة الحركة منه وإليه، مما يستوجب توسعتها.
5ـ لقد كانت الأحياء والمباني السكنية المحيطة بالمطار القديم من الناحية الشرقية والشمالية الشرقية، بمثابة مصدات رياح ميكانيكية تصد عنه جزء من عصف الرياح وانتشار الأتربة والغبار، وبما أن المطار الجديد أصبح في منطقة مكشوفة، فإنه من الضروري إحاطته بحزام من الأشجار من هاتين الجهتين اللتين تسود منهما الرياح المحملة بالأتربة والغبار، ويفضل هنا أستخدام أشجار الطرفاء أوالأثل (Tamarix) التي تتميز بكثافة وسرعة النمو والتحمل الجيد للجفاف والملوحة ورياح البحر، وهي عوامل تجتمع كلها في محيط وتربة المطار الجديد.
6ـ لقد ظل طريق نواكشوط ـ نواذيبو محورا من محاور طرقنا الداخلية، مع كونه جزء من طريق دولي هام هو طريق طنجة ـ داكار، لكنه اليوم زاد على ذلك وأصبح الجزء الرابط منه بين العاصمة والمطار هو المدخل الرئيسي للعاصمة بالنسبة للقادمين إليها جوا.. مما يتطلب العناية بهذا المقطع من الطريق بتجديد طبقته الاسفلتية، وتزويده بالإنارة الوهاجة، وإحاطته بالتدابير الأمنية، وتزيينه بالأشجار، ولكوننا بلد النخيل فإنه يفضل هنا استخدام نخيل البلح بالتبادل بين البلح الأحمر والبلح الأصفر على جانبي الطريق أو في وسطه، بشرط أن يتم ضمان ريه والعناية به، ذلك أن منظر الثمار الحمراء والصفراء لهذا النخيل صيفا سيكون أخاذا إلى جانب مدلوله التراثي، دون أن نغفل العائد المادي لهذا النخيل طبعا، لأن العدد سيكون 2500 نخلة إذا كان النخيل في وسط الطريق، و5000 نخلة إذا كان في صفوف على جانبيه.. ونفس الشيء، فقد أصبح الجزء الشمالي الغربي من مقاطعة تفرغ زينه أيضا هو المدخل الرئيسي للعاصمة، بما يعنيه ذلك من ضرورة تحديثه ورصف جوانب طريقه والعناية بالمباني الواقعة عليه، ومراقبة الأنشطة الممارسة في محيطه..
7 ـ الطريق الرابط بين العاصمة والمطار طويل نسبيا، وهي ميزة تميز الطرق بين العواصم والمطارات عادة، وذلك لإبعاد المطارات وضجيجها عن الأوساط الحضرية، إلا أن هذا الطريق أيضا ممل لخلوه من الحدائق والمعالم .. لكن كونه مملا لا يعني أن نعمره ب " الكزرات" والحيازات العشوائية، التي سيلجأ الكثيرون إلى الحيل لحيازتها بحجة الاستثمار فيها، بينما الذي سيُشْغلونها به هو الأخبية والبنايات الهزيلة لغرض الحيازة فحسب! فيجب إخلاءه هذا الطريق إلا من ما تم اعتماده وترخيصه عليه حتى الآن من قطع أرضية لسكان قدماء في المنطقة، والحرص على إخلائه من كل ما هو عشوائي من أخبية وبيوت متناثرة وبقايا حرق القمامات، واستصلاحه وتعميره بالمساحات الخضراء والمعالم ذات البعد التراثي والتاريخي و المرافق والمنشآت السياحية العصرية، دون السماح باستخدامه للأغراض السكنية كي لا تحيط المدينة بالمطار من جديد ونقع في نفس المشكلة..
8ـ وعلى ذكر المعالم ذات الطابع التراثي، ولأننا بلد النوق، فمن المناسب إقامة مجموعة معالم تراثية على هذا الطريق يكون من بينها نصب لقطيع من الإبل يسوقه رعاته ويتعقبه ( مرحل ) على الطريقة الموريتانية، ونصب آخر لقافلة جمال تحمل البضائع، ومعالم أخرى تجسد جانبا من تراثنا وذلك لكسر ملل الطريق.على أن يسند الأمر إلى القادرين على تجسيده في صورة معالم ذات قيمة فنية، وإلا فمن الأفضل تركه..
9ـ يجب أن ينتقل المطار القديم إلى مقره الجديد تاركا خلفه، ضمن ما سيتركه، المتسولين، والباعة على الأرضية، وسيارات الأجرة المتهالكة والمتسخة وسائقيها بهندامهم غير اللائق، وأسلوبهم الجشع وخشبتهم المعلقة بخيط في جذع شجرة.. ومنع كل هذه المسلكيات في المطار الجديد، وإنشاء هيئة خاصة بالنقل العمومي من وإلى المطار، مكونة من باصات وسيارات أجرة بلون ومواصفات خاصة، وبأسعار محددة، وسائقين بملابس محترمة، ويعون أن الزائر الأجنبي هو ضيف وليس رهينة أو فريسة يجوز خداعه واستغلال جهله بطبيعة المعاملات في البلد في ابتزازه وسوء معاملته، وسرقة جيوبه من خلال الانتهازية وتكاليف النقل الخيالية!! وإسناد الإشراف على وسائل النقل هذه لجهة إشراف وتنظيم تكون عرضة للمساءلة أمام أي مخالفة أو تقصير.