لو كان ماء البحر مداد قلمي ومساحة اليابسة ورقا أسطر عليه كلمات التعبير عن معاناتي ، لما وسعت و اتسعت لتحمل عباراتي التي يمكنها إعطاء صورة البعد الحقيقي للمرارة التي عشت منذ نشأت الدويلات القبلية المسلحة "الإمارات الموريتانية في عهد السيبة"إلى يومنا هذا الذي يتحدث فيه البعض
عن عدالة اجتماعية وهمية ودولة القانون الصورية والحريات الفردية والجماعية ولنفدت مفردات اللغة ومرادفات الكلمات حتى أجد نفسي عاجزا أو لغتي هي العاجزة عن إسعافي بالعبارات التي تشفي قليلي لترجمة إحساسي بآلام ظلم عشناه قبل وبعد استقلال بلادي.
تهميش ،غبن ،احتقار ،نسيان شريحتي الأكثر تعدادا ديمغرافيا ،حذفها من تاريخ شاركت في صنعه، من دولة بنتها وتبنيها مثل الآخر على أكتافها بعضلاتها وعرق جبينها ،اجلس معهم فلا يتحدثون عنها إلا مجاملة ، ،ينظرون إلي وحالهم يقول ليست لك أية مشاركة في مقاومة الاستعمار، نحن هم من دحر المستعمر وقاومه، متجاهلين عن قصد وتعمد دوري في الدفاع والكفاح عن تراب وطني وموطني، أنا الجندي المجهول الصبور، أنا المقاتل الشجاع، أنا مطعم الجنود وأسر المجاهدين، أنا ساقيهم، أنا مؤمن حيواناتهم أثناء غيابهم وفي حضرتهم، أنا لاعب كل الأدوار، منفذ كل الخطط، لكني لا اكتب، تجاهلوا تاريخي، تحايلوا عليه، حذفوني، تآمروا علي،غير أنني وفي كل الأحوال مقتنع بأن "المنتصر يكتب تاريخه "وأن العلم يرفع بيتا لاعماد له والجهل يخفض بيت العز والشرف"
يعاني النسيج الاجتماعي الموريتاني من اختلالات ذات بعد قبلي معقد هش البناء السوسيولوجي والانتربولوجي، عويصا على التجانس والتلاحم، متعدد الأعراق والألوان، مختلف اللغات والثقافات و المشارب والإيديولوجيات ، ضعيف التكوين السياسي والعلمي، مجتمع هرمي أسري عمودي التنظيم ، طائفي ، استعبادي ، إقصائي، مواصفات وصفات تجعل الوضع مخيفا بفعل متغيرات الظروف ،ضغط الحاجة ،الرغبة الجامحة للعدالة ،التطلع لدولة المواطنة ،الطموح لمماثلة النماذج الأفضل في ترسيخ وتطبيق الممارسة الديمقراطية.لذلك اعتقد أن العبث واللعب بالنار يتجسد في مغالطة الرأي والضمير الوطني بدعاية ديماغوجية عن وحدة وطنية فاقدة لأولويات البناء وأسس البقاء وآليات الصمود لمواجهة هزات وصدمات الاحتكاكات الاجتماعية،في مجتمع خلق معاقا بداء العبودية والتمييز واللامساواة القائمة على محاصصة ضيقة ومزدوجة لتقاسم السلطة بطريقة وراثية بين زعماء ومشاييخ القوميتين العربية والزنجية مع استبعاد كامل لشرائح الأتباع "العبيد ومن في مستواهم في هرم النظام الإقطاعي القبلي التقليدي الوراثي المتخذ كخلفية مرجعية للدولة في الوقت الراهن، في ظل هذا الواقع البعيد كل البعد عن مبادئ الحرية والعدالة والتوزيع العادل للثروة والمشاركة الفعلية في القرار السياسي والسيادي ، يكون المجتمع أمام وضعية ليست مريحة وغير مشجعة ولا محفزة حتى على المضي قدما في السعي لخلق بيئة ملائمة للنمو والاستقرار والوحدة واللحمة الاجتماعيتين ،لان الحرمان والظلم الممنهج والإقصاء المتعمد وسلب الحقوق المشروعة ،يؤدي للإحباط وفقدان الأمل وامتصاص حماس أبناء الطبقة الكادحة للتطلع إلى غد أفضل، هم جياع يقتاتون على فضلات طعامك ياسيدي ،كلهم يسير على قدميه أو على سطح عربة أو مركبة صينية ثلاثية العجلات هي وسيلة نقله، هي مصدر رزقه، أنت في فاخرة سيارات الصناعات اليابانية ،الألمانية،الخليجية ،يسكن عريشا في قطعة أرضية في حي شعبي لا تتجاوز مساحتها 240 مترا مربعا لا تسعه وأبنائه الثمانية ، آنت في حي راق تسكن منتجعا فسيح المساحة 800 مترا مربعا، حتى الأرض الشاسعة قليل النصيب منها،هو ممتهن أدنى الحرف واقلها أجرا غسال،حفار المشاتل،حمال،سلاخ،جزار ،خادم المنزل ، لا يملك قوته اليومي،لايقدر على دفع تكاليف دراسة أولاده ولا حتى على تسديد فاتورات الماء والكهرباء، هو البواب أنت المدير جندي الحدود حامل البندقية آنت القائد ،هو الوكيل أنت المفوض، هو المقصي من الرتب العسكرية العليا، من الترقية والتقدم والتكوين المستبعد من الوظائف السيادية ، لم يشغل في حياته وزارة الخارجية،ولا الدفاع،ولا قائد القوات المسلحة ولا مدير الأمن ولا قائدا لأي منطقة عسكرية يشار إليها،ولا محافظا للبنك المركزي ،ليس مؤتمنا مع أن الكل يعتمد عليه، عنصري لأنه قال كفى من غبني وإقصائي ،متطرف لأنه طالب بحقه المسلوب حقه الضائع. هو إذن ينادي من لايجيب،قلوب أعمتها المصالح عن رؤية الحقيقة.....
هذه الوضعية خلقت هوة ثقافية وتفاوة اقتصاديا كبيرا بين مكونات وفئات المجتمع في كل الجوانب المتعلقة بالحياة اليومية كالقدرة الشرائية غير المتكافئة ،حيث مئات آلاف الأسر أكثر من 99 بالمائة منها احراطين يقل دخلهم عن 20دولار شهريا ،أي أنهم تحت النقطة الحمراء لحد الفقر بمعنى أنهم في منتصف حقل المجاعة ،حالة مأساوية بطالة منتشرة،خدمات صحية تعليمية وأخرى ضرورية رديئة لا تتماشى مع حاجيات السكان المتزايدة ،الشيء الذي يبين حجم تلاعب رجال أنظمة الفساد المتعاقبة بالثروة الوطنية التي تتحول مع كل نظام إلى ريع لقبيلة مغتصب السلطة أو مزور إرادة الشعب.
إن الإنفاق على القوات المسلحة وقوات الأمن لا يكف لاستتباب الأمن واستقرار البلد، يساعد اقتناء الأسلحة المتطورة والذخائر والمعدات الحربية في تعزيز القدرات على حماية الحدود والمحافظة على الأمن الخارجي الصريح كالرد على اعتداء دولة ما مجاورة أو غير مجاورة ، خلافا للأمن الداخلي المرتبط غالبا بردة الفعل على الظلم وتجليات الظلم التي تعتبر حقن سريعة المفعول لانتشار العنف اللفظي ،الخطاب الناري الراديكالي، ثقافة الكراهية ،العنصرية ،بعث وإحياء وخلق خلايا طائفية عرقية قد تشكل أنوية لحركات انفصالية مسلحة ،تتخذ مطالب أصحاب المظالم واحتجاجاتهم كذريعة
لزرع الخوف أو إشعال نار فتنة قد تؤدي إلى تجزئة البلد إلى دويلات مسلحة مثل سابق عهده ،وكما هو اليوم حال الكثير من الدول،العراق ،السودان،ليبيا،اليمن ... إذن القوة لا تحقق الأمن ولا تخلق الوحدة والتلاحم ،وإنما عدالة توزيع الثروة هي السلاح الكفيل بالقضاء على التطرف و الحركات الإرهابية الجهادية ومنظمات جرائم بيع الممنوع والمحظور..
إن مكافحة الفقر والجهل و تعميم التعليم والتكوين المستمر والاحترام لكرامة الإنسان الذي كرمه خالقه على أجسام نورانية لا تعصي أمر ربها وخالقها ،احتضان أبناء الطبقات المسحوقة المظلومة ودمجهم في الدورة الاقتصادية هي الخطوة الأولى لتجفيف منابع الإرهاب والتطرف وتدخل الراحة والطمأنينة إلى القلوب التي ليس باستطاعة أية قوة عسكرية وأمنية أن تدخلها على القلوب غير قوة العدالة واحترام القانون وكرامة الآدمي ،مهما أنفقت الدولة ومهما استعرضت من قوة وعتاد لن يفيد شيئا مادامت العدالة مفقودة ،فالقوة العظمى "أمريكا،فرنسا،روسيا..."تقف اليوم عاجزة رغم ما تملك من عدة وعتاد أمام ردة الفعل الناتجة عن إقصاء وظلم الأقليات والضعفاء .
- يتواصل -