الضياع بين وهم المساواة وحقيقة التمايز/ محمد ولد الطالب ويس
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، جاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك، والسهل والحزن والخبيث والطيب وبين ذلك " رواه الترمذي وأبو داوود.
لما خلق الله آدم عليه السلام إذن خلقه من طينة، وقد شاء الله أن تكون تلك الطينة من جميع أشكال الأرض: جيدها ورديئها، عقيمها وخصبها، خيرها وشرها، صلبها ورخوها، وذلك لحكمة بالغة حتى تجتمع هذه الصفات وتُكوِّن المنظومة الوراثية التي ستكون أصلا يتوارث النسل مكوناتها طبيعيا، حيث أن كل مولود يرث عن أسلافه ـ كما أثبت العلم الحديث ـ ليست الصفات الخَلْقية فحسب بل وكذلك القدرات ونوعية العمليات العقلية والوجدانية، وإن كان آدم عليه السلام قد حُيدتْ في كنهه الإنساني تلك الصفات الرديئة فما ذلك إلا لأن الخالق جل جلاله عصمه لأنه نبي وشاءت حكمته أن تُنثر تلك الصفات في النسل لتحقيق تمايز أراده الله ـ لحكمة قد لا نفهمها ـ أن يكون صفة تسير عليها حياة الخلق الذي بث من ذلك الأصل المعصوم، ومصداقا لقوله تعالى " وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم "، فالشعوب والقبائل تدل على التمايز، كذلك الكرم والتقوى دليلين على وجود ضديهما، فلو أن الخلق اكتسب نفس الصفات الإيجابية من الأصل لما كانت ثمة حاجة لذكر اسم التفضيل " أكرمكم " وكان الخلق كله كريما وتقيا وله نفس الصفات والقدرات والميول والاتجاهات وله نفس القدر من التحمل والذكاء، ولكان آدم عليه السلام عجنت طينته من جيد الأرض فقط، فالاختلاف في الصفات والقدرات هو ما نتج عنه الاختلاف في الاتجاهات وبالتالي وجود أذكياء وأغبياء وعلماء وجهلاء وقادة ودهماء،، كما أن الدراسات النفسية الحديثة أخرجت إلى الوجود ظاهرة الفروق الفردية والتي تؤكد اختلاف الأشخاص عن بعضهم البعض وأن نقاط الاختلاف بينهم أكثر من نقاط التشابه، ولم يسلم الشخص نفسه من تلك الاختلافات فقدراته وصفاته لا توجد على درجة واحدة من التوافق والتشابه، وأكدت نفس الدراسات أن الناس لا يتشابهون إلا في الإطار العام المحدد للشكل الإنساني بينما تختلف الأشكال داخل الإطار كما تختلف البصمات والصفات، فكل ذات جمجمة، عبارة عن شخصية فريدة مختلفة، حتى إنهم يقولون إن عدد الشخصيات في الدنيا يساوي عدد النسمات فيها،! لكن هذه الاختلافات وما نتج عنها من تمايز واصطفاف لا تنفي عن البليد و"الوضيع" صفة الإنسانية وما يترتب عليها من حق في الحياة والتكريم، كما أنه لا يعطي للذكي أو العبقري و"الرفيع" حق الاستئثار بالحياة والشرف، فالإنسان كمادة خام إنسانا مكرما من قبل الخالق بسجود الملائكة لأصله، وباستعماره في الأرض، وبمنحه نعمة العقل، لكنه عندما يتحول من خام بفعل تفاعل محدداته الوراثية والعوامل البيئية يتحول إلى إنسان آخر فاعل أو مفعول به، ومن هنا يأتي الاختلاف، وليس من الإنصاف ولا من الطبيعي أن يطالب المفعول به ـ لأنه عجز عن بلوغ درجة الفاعلِ ـ الفاعلَ أن يلزم البناء ليصبح مثله،! فاستمرار الحياة يتطلب وجود فاعل ومفعول به ومضاف ومجرور وجار ومبتدإ وخبر وموصول،،، لكن من الطبيعي أن تدفع القوة الطبيعية المستودعة في الإنسان الإنسانَ المفعول به أو الذي لا يرضى موقعه في الحياة إلى الطموح لبلوغ مقام الفاعل أو نحوه، وغير ذلك هو عجز وتمن، الأمران اللذان يجمعان الغيرة في قلب صاحبهما حتى إذا ما تكدست وتعفنت تحولت تلقائيا إلى حقد مضر، ومن المعروف أن حركة الإنسان منذ وجد على الأرض في تغير مستمر صعودا وهبوطا، وهكذا يصبح الإنسان سليل الرفعة والمجد بفعل الخمول الذهني والضعف والفقر وضيعا، كما يصبح من لا يُعرَف له أصل بفعل الطموح وعلو الهمة والذكاء والأخلاق رفيعا، والأمثلة في التاريخ كثيرة، وهذا التناوب دلالة على أن الإنسان خلق الله له قابلية كل الاحتمالات، ويبقى الإنسان نفسه هو من يحدد موقعه، إلا أن الإنسان بطبيعته الميالة إلى الراحة ونزعة الشر الطاغية فيه تجعله مهيأ أكثر لاحتلال المراكز المتأخرة مما يجعله وهو يرى من تقدموه أشواطا بفيء تقدمهم يلقي المعاذير والتظلمات جزافا، والحقيقة أن الإنسان ـ غير السوي طبعا ـ يكره المتميزين عنه بما يفتقر هو له، فأبناء الشوارع يحبون أن تكون الناس كلها أبناء شوارع، واللصوص يحبون أن تكون الناس كلها لصوص، و المهمشون بفعل وجودهم لأنفسهم خارج دائرة المنظومة القيَّمية التي رسم المجتمع لنفسه يكرهون تلك المنظومة القيمية التي يرونها سببا لتهميشهم وينادون بتحطيمها والخروج عليها ولو أنهم أقلية، بل ويسمون تلك القيم وهماً والمتمسكون بها حراسا للوهم، ويزداد شطط هؤلاء وشطحهم منتهزين كل ما تيسر من حرية ومتوكئين على دعم غربي يُقدم عادة مجانا لكل شاذ، ومدفوعين بحب الشهرة و"التحرر" وجمع المال،.
لقد شهدت البلاد في هذه الفترة التي تتسم بالفوضوية والميوعة هبة كبيرة من دعاة "المساواة" وإن كان الهدف في ظاهره نبيلا إلا أنه يحمل في طياته خبثا يعبر عن نفسه في الخطابات العنصرية التفريقية اللامسؤولة، كما يحمل جهلا مقنعا يظهر في العنوان الغلط الذي يتوجه إليه الخطاب، فالمساواة والعدالة خطاب ينبغي أن يتوجه إلى الدولة التي يحكمها نظام تُمثل فيه كل طوائف وفئات المجتمع، فعلى هذه الدولة فعلا توفير العدالة وتحقيق المساواة لمواطنيها دون تمييز، وعلى طلاب الحقوق والمساواة أن يتوجهوا بإبرهم الواخزة وخطاباتهم المشفرة وضغائنهم المكعبة إلى الدولة، والدولة وحدها لأنها هي ما يمكن أن تحقق ذلك في ظل احترام خصوصيات المواطنين، لأن خصوصيات المواطنين هي الأخرى حقائق وحقوق يجب أن تصان وتحترم مادامت لا تهضم حقا لمواطن على الدولة، وحق المواطن ليس إلا على الدولة، فالمواطنون متساوون أمام القانون وأمام الدولة وفي الحقوق والواجبات، لكنهم ليسوا بالضرورة متساوين في القيم والأخلاق وحتى في العادات والتقاليد، إن مشكلة منظري دعاة المساواة أنهم يوجهون من يُنَظِرون لهم إلى فئة من المجتمع وكأن هذه الفئة هي ما يجب عليها أن توفر للمغبونين و"المهمشين" الصحة والتعليم والتعيين وباقي الحقوق أو كأن هذه الفئة هي ما يجب عليها أن تتنازل عن خصوصياتها حتى لبيولوجية والسوسيولوجية لتتساوى مع من ظلمهم التاريخ ،! و هم بهذا التوجه الغلط يشحنون من حيث يدرون أو من حيث لا يدرون ضعاف العقول ممن يبحثون عن هذه "المساواة" ويجعلونهم يعيشون وهْما قد يضيعون وهم يطاردونه، صحيح أننا متساوون ومتشابهون لكن صحيح كذلك أننا مختلفون ومتمايزون، وتلك سنة الله التي لا تبديل لها،.
إن حركة التاريخ تنتج عنها تراكمات من الظلم والغبن والتهميش للبعض، وهذه الإشكالات تعالجها الدولة بالتمييز الإيجابي والإنصاف ويجب الضغط على الدولة حتى تعالجها، وقد أظهرت الدولة فعلا مرونة وعزما في معالجة هذه القضايا، إلا أنها مع الأسف لم توفق بعد في إيجاد نظام وطني صارم قادر على قطع الألسن بالإصلاحات الكبرى والعدالة الاجتماعية وتطبيق مبدإ التمييز الايجابي في حق الطبقات الهشة، وفي تعذر وجود ذلك النظام لا يجدر بالمتاجرين بهذه القضايا أن يجعلوها وسيلة لتفكيك اللحمة الاجتماعية وتأليب بعض فئات المجتمع على بعض فئاته بعناوين من الوهم البراق،،.
إن "التحرريين" من منظري "المساواة" عليهم أولا أن يكونوا على المستوى خلْقا وخُلقا وحكمة واستقامة وثقافة بناءة حتى يكونوا قادة إصلاح وبناء، لا قادة فساد وهدم، وبذلك يحددوا لقواعدهم المفاهيم بالضبط حتى لا تختلط عليهم الأوهام بالحقائق فيسلكوا سبيل الوهم على أنه حقيقة فيضيعون ويرتكبون من الكبائر في سبيل ذلك مالا تحمد عقباه.