أصبحت العاصمة الاقتصادية خلال الذكرى الـ55 لعيد الاستقلال هي العاصمة تقريبا، حيث تحول إليها الكثير من المواطنين، إضافة إلى مواطنيها الأصليين، الذين يزيدون على المائة ألف، كما تحولت الشخصيات الرسمية في جلها، المدنية والعسكرية، إلى هذه المدينة المعتدلة المناخ غالبا، الباردة في تلك الأيام
بحكم الشتاء.
ورفع العلم وجرى عرض عسكري مكلف، مثل رسالة للجوار والقوى الداخلية المناوئة، للقول بأن المجهود الأمني والعسكري ليس محل إهمال وتجاهل البتة، في هذه الدولة، رغم مشاكلها المتنوعة.
ولم يغب التبذير، فالتوسعة التي جرت في الشامي على مستوى الطريق الرئيسي بحجم 15 كلم، كلفت وحدها 600 مليون أوقية.
كما كلف الاحتفال عموما ست مليارات أوقية، حسب بعض التقديرات، وإن لم تخلو من المبالغة، لكن مبلغ كلفة الإحتفال كان بدون شك بالمليارات، رغم ما يعيشه الشعب الموريتاني، في أغلب شرائحه من ضعف المستوى الغذائي والصحي والتعليمي والأمني.
ظهر الرئيس مع ابنته "الفوز" ضمن جو عائلي لا يخلو من الإرتياح، وإخفاء المصاعب، وإن كانت براءة الطفلة، تخفف من جو السياسة، إلا أن الطابع الرسمي كان جديرا بصرامة أكبر.
لم يتعرض خطاب الاستقلال للسياسة الآنية، رغم جدلية الحوار وضعف العلاقة بين مكونات المسرح السياسي وكثرة التحديات المحرجة للجميع بحق.
تحول الصخب إلى نواذيبو، وحدثت المشاداة اللأخلاقية بين رئيس الحزب الحاكم ورئيس المنطقة الحرة، بسبب المال والمنافع، وانتشر جيش "البشمركه" و"الطماع".
احتفالات شكلية، سوى الرسالة الأمنية، التي لم ترقى إلى مستوى الأهمية القصوى، لأن المعروض كان خاليا تقريبا من قوة عسكرية جوية ذات بال، وظهر بعض الضباط بنقص اللياقة والبدانة أحيانا، ربما غير قادرين على الحركية العسكرية ذات الطابع الخاص الفعال.
كان الاحتفال للتغطية على النواقص، وتضخيم الإيجابيات إن وجدت بصورة خادعة للجميع، داخليا وخارجيا.
كما جاء هذا الاحتفال الضخم، فرصة للثراء الفاحش، بالنسبة لبعض مقاولي النظام، دون غمط نصيب المؤسسة العسكرية من كعكعة الدولة السائبة.
ورغم جدلية المقاومة أو أن الاستقلال كان مجرد هبة من فرنسا، سمي المطار الجديد بـ"أم التونسي"، وضويقت زوجة رئيس سابق مؤسس بمجرد إبداء رأي، وإن كان خاطئا في نظر الأغلبية وربما تحدي لإختيارات أكثرية الشعب، الجدير بتخليد تاريخه الخاص، على الوجه الذي يريد.
إجتمع مجلس الوزراء لعقاب امرأة، أصبحت منا بحكم الزواج والإنجاب، وإن كانت سيدة فرنسية في الأصل، ولم تتجاوز مستوى التعبير عن موقفها المثير والغريب، وإن كانت ردة الفعل أغرب وأقسى.
ظهرت أصوات تدعي المقاومة وأنها ورثتها عن آبائها، وهو تاريخ مشرف بحق، وأصوات مغايرة لها آراء أخرى.
إعلام رسمي وخاص، تزاحم على عرض الكشكول التاريخي والسياسي، بمناسبة ذكرى غالية، مهما كان مستوى الاختلاف المشروع أصلا.
مثلت الذكرى، فرصة لسرد بعض الحقائق كما مثلت في المقابل، فرصة للمزايدة.
ومن الملفت للإنتباه، أن التاريخ السياسي الرسمي الموريتاني القريب، كان حاضرا بكثافة، سوى مرحلة معاوية في الحكم، فقد كانت الأقل تغطية، ربما بحكم حساسية النظام الحالي، خصوصا الرئيس عزيز من ولي نعمته السابق.
ولم يستطع ولد عبد العزيز وبعض صحبه، أن يتجاوزوا العقدة، ويعترفوا بحق سرد تاريخ حكم معاوية، بسلبياته وإيجابياته، بصفة هذه المرحلة من أهم مراحل الحكم السياسي السابق، فمن الموضوعي تناولها ككل الحقب.
ونعود للحدث الاحتفالي للإشارة إلى تنوع التوشيحات، حيث شملت شخصيات محسوبة عائليا على الرئيس السابق معاوية، كان من بينهم الجنرال المتقاعد محمد ولد الهادي والعقيد سيد احمد ولد الطايع، ورجل الأعمال محمد ولد نويكظ، وربما يأتي هذا الاهتمام في خضم فك الحصار، والرغبة الرسمية في تخفيف الإحتقان، والشعور بالتهميش، وربما لأغراض أخرى في نفس يعقوب، كما يقال في المثل العربي الشهير.
وفي المؤتمر الصحفي، نفى ولد عبد العزيز رسميا التدخل في المسرح اليمني، وأتاح الفرصة لبعض الزملاء للتحاور معه إعلاميا.
وتكرر ظهور بعض الوجوه الإعلامية، دون قدرة على التنويع مما يشي بتحفظ كبير من الساحة الإعلامية وخشية خروج المؤتمرات الصحفية الرئاسية عن سياق ما تريده الجهة المشرفة عليها.
وبوجه عام للدولة الحق في إرسال الرسائل التي تريد، من خلال مثل هذه الإحتفالات، لكنها كانت مكلفة إلى أقصى حد، رغم سلامتها من المخاطر الأمنية، المحدقة في المنطقة عموما.
حكم عسكري بواجهة ديمقراطية محدودة طبعا.
فالنظام يتعامل مع المواطنين بمنطق الموالاة أولا، قبل المواطنة، وعقاب الرأي الآخر بالحرمان الجزئي أو الكلي، مازال مستمرا، فأين أطر المعارضة من التوظيف والحضور اللائق، وماهو حظ الكتاب الصحفيين الأحرار، إن وجدوا في خضم تقريب صحافة النظام، على حساب اللون الإعلامي المناوئ أو المحايد على الأقل.
ويبدو أن النظام بطابع عسكري غالب مهيمن، رغم الطابع المدني الشكلي المعلن.
لم يفلح نضال السياسيين المدنيين، منذ 1978 وإلى اليوم، وحتى قبل ذلك، في تكريس حكم مدني قانوني خالص، بعيدا عن الاستبداد والأحادية والطابع العسكري السلطوي.
ولم تزل الديمقراطية مجرد شعار محدود هش، قابل للذوبان السريع، في أي وقت، ما لم تتحول الدولة من حكم الثكنة إلى حكم القانون العادل، لصالح الجميع، دون حيف أو غبن.
ورغم النواقص مازال الأمل أيضا، لاستكمال المشوار الناقص، والملغوم بالتمييز وتكريس حكم اللوبيات واستغلال النفوذ.
العقاب سجنا بسبب الرأي، يشوب بقوة، ما يدعيه البعض من مكتسبات سياسية.
فرغم عنف أسلوب بيرام، وتحامله غير المشروع على الأغلبية وبعض رموز الأمة، إلا أن اعتقاله دون محاكمة عادلة، قد يهدد السلم الأهلي، وقد لا يتماشى مع قداسة حرية الرأي، ما لم يقترف جريمة بينة المعالم والشروط.
وفي نواذيبو توقف المؤتمر الصحفي، برهة عندما سمع الرئيس صوت الآذان من قريب، هذا مهم ويبشر باستمرارية قداسة هذا الدين عندنا جميعا، وهذا هو أفضل ما لاحظت في احتفالات نواذيبو بالذكرى الخامسة والخمسين.