منذ الإعلان عن الديمقراطية التعددية سنة 1991 والمعارضة الموريتانية تناضل بهدف تحقيق دولة القانون والعدالة والحريات، التي تتحقق بها التنمية ويرتفع بها المستوى المعيشي للفرد، وقد حققت المعارضة بذلك رصيدا نضاليا يحمد لها ويشكر
لكن بالنظر إلى كل هذه الفترة النضالية الهامة،
نجد أن المكتسبات والنتائج المتحصل عليها تبقى ضئيلة جدا بالمقارنة مع درجة ومستوى طموح النخبة ومطالب جماهير المعارضة، وقد اعتمدت المعارضة خلال هذه الفترة ثلاث استراتيجيات عريضة
الإستراتيجية الأولى: تعتمد على نهج المقارعة السياسية تحت ما يسمح به النظام من آليات –في كل الأحوال ليست شفافة- وقد رتبت نتائج من ضمنها إيصال صوت المعارضة من خلال البرلمان، والإسهام في تحقيق شيء من الوعي السياسي التعددي الهام، لكنها لم تحقق الوصول للسطلة، ولم تنتج لنا دولة العدالة والقانون والتنمية التي نصبوا اليها.
الاستراتيجية الثانية: وتعتمد على المقاطعة وسياسة الكرسي الفارغ، من أجل محاصرة النظام وحشره في الزاوية من خلال نزع المصداقية عن مناسباته الانتخابية، وهذه فشلت في أغلب الأحوال، بسبب طبيعة المجتمع غير الواعي بالسياسة، الراغب دائما في مناسبات انتخابية تحركه وتجتذبه، فالممارسة السياسية الشعبية هي كالطبيعة تخاف الفراغ، بل ويقتلها، وكثيرا ما نجد معارضين في الأعماق يخوضون الحملات الانتخابية لصالح النظام، بحجة أن المعارضة لم تشارك، ولابد من بديل.
الاستراتيجية الثالثة: وتنتهج نهج المواجهة الجماهيرية، واستخدام الشارع لضرب النظام، وربما للدفع إلى ثورة جماهيرية، أو حتى لفتح المجال أمام انقلاب عسكري جديد يحتمه تأزم الوضع، ويدفع إلى إخراج البلد من عنق الزجاجة، لكن هذا النهج أثبت فشله لغياب الوعي السياسي في الجماهير، وفقدان مبرراته الواقعية، كما أثبت خطره على السلم العام في مجتمعات عديدة، ولا يخفى على أحد ما نحن عليه اليوم من هشاشة في البنية الاجتماعية، المشحونة بدعوات التنافر والانتقام، نتيجة غياب عدالة صادقة ومساواة أمام القانون تنصهر فيها كل المطالب والمظالم الحقوقية، وهو ما يهدد بزيادة الاحتقان، وإمكانية الانفجار، خصوصا مع خطورة الوضع الأمني في المنطقة وشبه المنطقة، وغياب جهاز أمني وعسكري بعيد عن التجاذبات السياسية والشرائحية والاديولوجية يعول عليه في حفظ الأمن، أما التعويل على الانقلابات العسكرية فمخالف للمنهج الديمقراطي وللمبادئ النضالية المقارعة للانظمة العسكرية الاستبدادية، فضلا عن أنه يعيدنا للمربع الأول كل مرة، في دوامة تبدأ بانقلاب وتنتهي باحتقان يؤدي إلى انقلاب آخر
ولأن كل هذه الاستراتيجيات لم تؤدي إلى مبتغى الطموح السياسي وغاية النضال الجماهيري، فقد أدت إلى إصابة النخب بإحباط كبير، ترتبت عنه حالتان باديتان للأنظار،
الحالة الأولى: هي حالة مناضلين تخلوا عن النضال في صفوف المعارضة والتحقوا بصفوف المصفقين المطبلين المزمرين الباحثين عن مصالح مادية شخصية ضيقة جدا، لاتتجاوز الحصول على مناصب أو صفقات، وفلسفة هؤلاء أنه لا نتيجة ترجى من النضال غير شقاء المناضل وعزله عن ما يحقق به أدنى مستوى من العيش الكريم، وأن النضال من أجل شعب لم يتحقق فيه بعد الوعي بالديمقراطية والحقوق هو ضرب من العبث البارد
الحالة الثانية: هي حالة قوم تخلوا عن السياسة مطلقا، وأمسكوا عن الخوض فيها، لا موالاة ولا معارضة، وفلسفتهم في ذلك الحفاظ على الكرامة وماء الوجه، وصونهما من النفاق والتملق المبتذل، والحفاظ في نفس الوقت على ما يمكن الحفاظ عليه مما يعيش به المرء عيشا كريما دون تنغيص من النظام
لأجل ذلك بات من الضروري البحث عن إستراتيجية رابعة تتأتى من تقييم كل هذه الاستراتيجيات وتقويمها بحيث يمكن أن تحقق غاياتها، ولأن السياسة هي فن الممكن كما يقال، فإنه لا مانع من النظر في الوسائل والآليات الممكنة لتحقيق الغايات السامية للعمل السياسي المعارض، بما يحقق الوصول للسلطة، وينتزع مكتسبات سياسية في طريق ذلك، ويحقق بعض المطالب الشعبية ويرفع مظالمها من خلال النضال اليومي، وهو ما نرى هنا، أنه يتطلب نهج إستراتيجية تجمع ايجابيات الاستراتيجيات السابقة دون سلبياتها، ولا يكون ذلك إلا بالجمع بين المقارعة السياسية الانتخابية، واستخدام الضغط الجماهيري من خلال المسيرات والمهرجانات الجماهيرية السلمية، ومد اليدين مبسوطتين للحوار من أجل انتزاع ما يمكن انتزاعه به، ولا تناقض بين شيء من ذلك
ولأن موضوع الحوار هو حديث الساسة اليوم فلابد من الإشارة في شأنه إلى ثلاثة أمور:
-أن الحوار إذا تحققت آلياته وضمانات تنفيذه يكون ضرورة لازمة، وحلا راقيا شريفا لا يجوز التخلف عنه
-أن الحوار آلية من الآليات السياسية التي ينتزع بها من السلطة ما يمكن انتزاعه من مكتسبات سياسية ومن مطالب اجتماعية وتنموية، فضلا عن كونه من صمامات أمان الشعوب من المنزلقات الخطيرة
-أنه حتى مع فشله لا يغير من مركز المعارضة، ولا يحولها موالاة، كما أنه لا يرتب التخلي عن الأساليب النضالية الأخرى، فكم من جيوش التقت في أرض المعركة في الوقت ذاته الذي يجلس فيه مندوبوها على طاولة المفاوضات ولا تعارض بين هذا وذاك.
بقي أن نقول إن الأمل قائم في المعارضة وأساليبها، وفي النضال وما يمكن أن يحقق من نتائج، وقد زاد من ذلك الأمل بداية ظهور ما يمكن اعتباره رؤية سياسية معارضة تدعوا لتغيير الأساليب ومرونتها بما يناسب كل موقف وكل ظرف، ويسير في اتجاه التغيير السلمي للسلطة دون أن يغفل عن تحقيق ما يمكن تحقيقه في طريق ذلك من مكاسب للسياسة تقوي من مركز المعارضة، ومطالب للجماهير تخفف من معانات الشعب، هذه الرؤية نتلمسها في خرجات رئيس منتدى المعارضة الأستاذ أحمد سالم ولد بوحبيني الإعلامية، وتبشر بأمل جديد.