ما بعد إنشاء محاكم جنائية موريتانية لمحاربة العبودية / يربان الحسين الخراشي

على الرغم من أن تأسيس الدولة الوطنية الحديثة سنة 1960م كان من المفترض أن يقضي على النظام الإجتماعي الذي يكرس الطبقية عموديا ؛ مما يجعل من العبودية أمرا طبيعيا، إلا أن ذالك لم يحدث حتى سنة 1981 م حيث أعلنت الحكومة آنذاك إلغاء الرق وبعد ذلك تتالت القوانين والقرارات التي تحرم 

وتجرم ظاهرة العبودية كالقانون الصادر سنة 2007م الذي ينص على تجريم الظاهرة والقانون الصادر سنة 2015م الذي يصنف الجرائم المرتبطة بالاسترقاق كجرائم ضد الإنسانية.
ولكن كل ما تحقق منذ نشأة الدولة إلى اليوم من إنجازات سياسية وقانونية على طريق التحرر والانعتاق من العبودية تجمعها سمة الاستجابة للمطالب الخارجية أكثر من الداخلية ؛ شأنها شأن جل القضايا الوطنية الكبرى والتي تأتي حلولها دائما في صورة إكراهات خارجية أكثر مما هي تلبية للمطالب الداخلية ، وكأن قدر بلادنا أن تظل ضحية وحبيسة خطأ النشأة ولعنة الجغرافيا باحتفاظها بدورها الوظيفي فقط كمنطقة عازلة بين عالمين حتى بعد مرور 55عاما على استقلالنا.

ويأتي تشكيل محاكم جنائية متخصصة في مجال محاربة العبودية كخطوة إيجابية لاستكمال الترسانة القانونية وتفعليها، وعلى الرغم من أن الفائدة عميقة والحاجة ماسة لتشكيل هذه المحاكم إلى أن عدة أسئلة تطرح نفسها بقوة   :هل سيغير هذا الإنجاز من الواقع المزري للشريحة المستهدفة على الأرض ؟ وهل يستطيع  معدم من سكان "ادباي اعبيد الناس" التابع لبلدية تكوره التابعة لمقاطعة امبود الوصول إلى المحكمة الجنائية الجنوبية  في ولاية نواكشوط الجنوبية ؟ وكيف سيصل معدم آخر من سكان "أدباي أم سروال" التابع لبلدية دغفك باركيول إلى مقر المحكمة الجنائية الشرقية بالنعمة؟ وهل سيتمكن من لا يعرفون حقوقهم أصلا من نيلها عن طريق هذه المحاكم ؟ ماذا عن تنفيذ الأحكام في حال صدورها ؟
أسئلة كثيرة حائرة ،من الصعب إيجاد أجوبة شافية ومقنعة عليها خاصة مع ضعف الوعي الحقوقي والفقر المدقع الذي تعانيه الشريحة المستهدفة ووجود معوقات كثيرة تحول دون تطبيق القرارات في حالة صدورها.

إن القضاء على ظاهرة العبودية ومخلفاتها  لا يتطلب فقط استصدار القوانين ،بل إن المطلب الداخلي الوطني العاجل بعد استكمال الحزمة التشريعية و القانونية هو إنجازات اقتصادية واجتماعية وتعليمية وأخلاقية للشريحة المستهدفة خاصة في مجتمعات "آدواب " على نحو خطة استراتيجية طويلة الأمد (20 سنة مثلا ) وذات محاور أربعة مبنية على تمييز إيجابي مناطقي هادف ومؤقت   :
المحور الأول-التمييز الإيجابي في المجال التعليمي والتكويني:وذلك من خلال إنشاء المدارس النموذجية المتميزة ، مع استحداث علاوة معلم أدباي بقيمة نصف راتبه ، واشتراط الخبرة المهنية  والتميز للمستفيدين ؛ فتح مراكز للتكوين المهني و تنفيذ برامج تدريبية حول وسائل الإنتاج الريفية  الزراعية والرعوية و الصناعات الريفية  للشباب الأميين و المتسربين من المدرسة؛ والقضاء على داء الأمية خاصة للمواطنين الذين تقل أعمارهم عن 50 عاما ،مما سيمكن من توظيف العنصر البشري توظيفا صحيحا ويساهم بذلك في محاربة البطالة في صفوف سكان المناطق المستهدفة.

المحور الثاني  - التمييز الإيجابي في المجال الاقتصادي والاجتماعي: حيث سيساهم في إعادة توزيع الثروة الوطنية من خلال  تمويل المشاريع المدرة للدخل مثل: مشاريع تطوير الأراضي الزراعية ،ومشاريع  تربية المواشي والدواجن، و تشجيع سياسة مشروع الأسرة المنتجة، وتطوير الصناعات الريفية  بخلق مصنع الأسرة الريفية ،مما سيمكن من إشراك التجمعات المستهدفة في عمليات الإنتاج في القطاع الريفي ؛بالإضافة إلى توفير البنية التحتية والخدمية والتي قُطعت أشواطا كبيرة في تنفيذ وإنجاز مشاريعها خلال السنوات الأخيرة؛ مع استحداث ضريبة على أرباح الشركات الوطنية ،  والشركات الدولية العاملة في المجال المعدني والصيد، وضريبة العامل الأدبايي على رب العمل  بحيث تستخدم هذه الأموال في تسديد رواتب  دائمة لأسر آدواب الأقل فقرا .

المحور الثالث –التمييز الإيجابي في المجال السياسي والوظيفي: من المعروف أن أفراد الشريحة المستهدفة أقلية من حيث المشاركة في الحياة السياسية ،  وخاصة المشاركة في مراكز صنع القرار ،وللنهوض بهم ينبغي أن نتجاوز التمثيل الرمزي التجميلي  الذي  يتيح لثلة متميزة منهم الوصول إلى مواقع قيادية في الدوائر الحكومية المختلفة ،المطلب الحالي هو تمكين القاعدة العريضة من الشريحة المستهدفة من المشاركة الفاعلة في السياسة ،  وإدارة وتسيير شئونهم المحلية بأنفسهم  ؛ بالإضافة إلى  تعميق الوعي السياسي في أوساط شعبنا، وأحزابنا ، ومنظمات المجتمع المدني، وخاصة  لدى الشباب، وذلك بخلق ثقافة سياسية لديهم حول تجليات ومخاطر ظاهرة العبودية وبناء إرادة سياسة  لديها إصرار على  مواجهة هذه الظاهرة .

المحور الرابع – التمييز الإيجابي في المجال الثقافي والإعلامي :وذلك من خلال زيادة البرامج الإعلامية، والثقافية الهادفة التي تتوخى التخلص من العادات ،والعقليات المكرسة للعبودية، و تساعد في تغيير الصور النمطية للشريحة المستهدفة في الذهنية الفردية ، والمخيلة الجماعية، واستغلال المنابر الدينية  للمساعدة في تحقيق ذلك ؛ مع العمل على المدى البعيد(50 سنة مثلا) على قولبة المجتمع في قالب ثقافي جديد يكرس  المساواة بين أفراده، ويطمس المنظومة القيمية للمجتمع التي تقوم على الانقسام العمودي.

إذا كان الوضع الراهن الوطني يتميز باستكمال الترسانة القانونية في مجال محاربة العبودية  ،فإن تحديات كبرى لا تزال في انتظارنا تتطلب حلولا ناجعة ومعالجات جذرية على المستوى التعليمي ،والاقتصادي، والاجتماعي، والسياسي ،والثقافي؛ حتى نتمكن من تحويل أكبر مشاكلنا (ظاهرة العبودية ومخلفاتها) إلى ميزة  تفضي في النهاية إلى تحويل بلادنا إلى دولة عادلة تضمن تكافؤ الفرص بين مواطنيها وترسخ قيم التضامن والتآزر و التسامح،و تحول آدواب إلى قرى حديثة حية ،وبذلك نكون أبطلنا مفعول القبلة الموقوتة التي زرعها المستعمر  بتكريسه للعبودية عن قصد أو من غير قصد من خلال  تشجيع إقامة تجمعات خاصة بالعبيد السابقين.
 

16. ديسمبر 2015 - 12:20

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا