أخيرا رضخت القوى السياسية الأساسية في موريتانيا لمنطق الحوار والتفاهم وتقديم التنازلات المتبادلة، بعيدا عن الشروط والإملاءات. وأصبح بالإمكان القول إن المَخرج السياسي من حالة الاستقطاب الراهنة بات في طريقه إلى التبلور استنادا إلى تخلى المنتدى عن ما درج على تسميّته "ممهدات الحِوار"
التي حالت طويلا دون انطلاق مسار التفاوض العلني بين الأطراف.
غير أن الموقف الجديد الذي أعلن عنه منتدى قوى المعارضة ليس وليد اللحظة أو الصدفة، كما قد يتبادر إلى الأذهان، بل هو في الواقع، استنتاج عميق لمجمل التطورات السياسية الحاصلة في البلاد، وارتداداتها الاجتماعية والاقتصادية واستيعاب واضح لاستحالة تحقيق أيّ اختراق سياسي بالاحتكام إلى الشوارع والساحات، وربما هو فهم أيضا للفروق الأساسية والعميقة التي تميز الحالة الموريتانية عن الحالات السائدة في بُلدان ما سُميّ بـ "الربيع العربي".
هذا الفهم الذي جاء متأخرا اعتمد ،في ما يبدو، على إعادة قراءة واستشراف للمشهد السياسي المحلي لاسيما في ظل تمسّك الحكومة بموقفها الثابت والنهائي من "الأزمة السياسية"، في هذا السياق بادرت القيادات السياسية لمنتدى المعارضة إلى "فكّ شيفرة" الحديث الرئاسي لوسائل الإعلام في ذكرى الاستقلال بنواذيبو مساء الـ 28 نوفمبر، وهو الحديث الذي "قطع الشّك باليقين" كما يُقال، فكان صارمًا بقدر ما كان جادّا ومُقتضبًا: "لا تنازلات، لا شُروطَ مُسبقة، وكفى ابتزازا."
أمام ذلك لم يعد أمام أحزاب المنتدى سوى الخروج من "الحالة الرمادية" وإعلان موقف واضح وموّحد ـ قدر الإمكان ـ وإلاّ فإن هذا الائتلاف السياسي لن يصمُد طويلا، وعليه فإن الوضع غير قابل للتّريُّث في ظل التصدعات والانشقاقات المستمرة والتحالفات المُتقلبة، فيما الخصم السياسي ثابت على موقفه ومتماسك بقوة.
في هذا الإطار أعلن المنتدى ـ على استحياء ـ قبوله بالحوار، فرفَض التّكتل بـ "استعلاء" ليتصاعد الخلاف داخل أروقة الحزب ويُعلن القيادي البارز فيه يعقوب ولد أمين شقّ عصى الطاعة على الرئيس أحمد ولد داداه الذي عجزَ أو "تعاجز" ـ في رأي خُصومه السياسيين ـ عن فهم التطورات السياسية المُتلاحقة،.
وفي حين تندلع حرب البيانات بين التكتّل من جهة، وأحزاب المنتدى وقياداته، لا سيما الأستاذ ولد بوحبيني، تُحاول الأحزاب المُعارضة، في موازاة المسار التفاوضي، الضّغط على الحكومة بالتصويب على جبهات أخرى، أبرزها الجبهة الطّلابية التي تتحمّل على كاهلها هذه الأيام أوزارا من "زينة القوم".
على الجانب الآخر تبدو الإشارة الأهم تصريح مصدر مقرّب من السلطة السياسية مؤخرا بعدم وجود أي نيّة أو إجراء لمُلاحقة رجل الأعمال محمد ولد بوعماتو والذي دأبت المعارضة على تقديمه كأحد أبرز رموز المعارضة تهويلًا ورفعا للمعنويّات، على ما يشي بذلك التصريح المذكور.
واستنادا إلى ملامح المشهد الراهن، يبدو التكتل أشد الملدوغين تأوها وهو يسير الهوينى وحيدا بعد فشل المراهنة على تمسّك المنتدى وتماسكه معا، و حلفاءه بالأمس يتسابقون اليوم إلى احتلال المقاعد الشاغرة في جلسات الحوار المرتقب، بينما يفوّت هو على نفسه حضورا سيكون فاعلا ـ إن حصل ـ وإلّا فستكرّ سبحة الانسحابات والتصّدعات داخل الحزب العريق، ففي السيّاسة ينتصر من ينصبُ شراعه في اتجاه هبوب الرياح، لا من يتوقع أن تهُبّ الريح حيثُ ينصُب أشرعته!