في تأبين وذكر بعض صناديد فرسان بني حسان (ح3) / الأستاذ محمدٌ ولد إشدو

4 صفحات مجهولة من التاريخ
كانت موريتانيا عندما وصلت إلى نواكشوط من المذرذرة في نهاية سنة 1980 تغلي ضد السلطة العسكرية الفردية الانهزامية الخاضعة لإملاءات بوليزاريو وحلفائها؛ والتي تقمع الشعب

 وتحاول إلهاءه بالشعارات الثورية الزائفة. وكانت حركة التحالف من أجل موريتانيا ديمقراطية (AMD) بجناحيها - المدني والعسكري- قد تشكلت في غيابي أنا وزميلي في المنفى، وتقود وتوجه ذلك الغليان شبه الصامت، ولكن المحتدم في أنحاء كثيرة من البلاد؛ خاصة ولايات الترارزة والبراكنة والعصّابة وتگانت ومدينتي نواكشوط والمذرذرة بالتحديد.
وكانت تلك السلطة قد قامت - في أحد فصول تحالفاتها مع بعض التيارات اليسارية الهامشية- بحماقة الإطاحة بالعقيدين محمد محمود ولد أحمد لولي (رئيس الدولة) والأمير أحمد سالم ولد سيدي ولد مُحَمْدْ لحبيب بصورة مذلة من السلطة، وأحالت الأخير صحبة بطل حرب الصحراء العقيد فياه ولد المعيوف إلى التقاعد المبكر. وذلك بسبب معارضتهم لخطها الاستسلامي وما يمثلونه من ثقل سياسي بصفتهم هم آخر ما كان يمت بصلة في تلك السلطة الغوغائية المغتصبة إلى موريتانيا الأصيلة المغدورة. وكانت تصريحات وزير الخارجية البعثي يومها في حق المبعدين مثار تندر وتهكم حين وصفهم بالكتلة الجامدة (Masse inerte).
لم يستسلم الأمير العقيد أحمد سالم ولد مُحَمْدْ لحبيب لإرادة العدو؛ بل امتطى ركاب الإقدام على خطى أجداده الشجعان، وهاجر ليلتحق بحركة التحالف من أجل موريتانيا ديموقراطية (AMD) ويستلم قيادة جناحها العسكري مع رفيقه في السلاح والسؤدد العقيد محمد ولد ابَّه ولد عبد القادر رحمهما الله. وكانت أجواء الوطن يومئذ حبلى بالعواصف والأنواء.
وفي نواكشوط روى لي بعض الزملاء تفاصيل هجرة ذلك الأمير البطل، وكيف ضحى بأهله وولده ثم جاد بروحه الزكية في سبيل حرية وعزة واستقلال الوطن، وشهدت ميلاد حكومة الوزير الأول سيد أحمد ولد ابنيجارا المدنية، وعايشت إرهاصات وأحداث محاولة انقلاب 16 مارس 1981 والقمع الواسع الذي أعقبها والذي كنت من بين  ضحاياه. وقد منَّ الله علي بالحياة كما مَنَّ بها على الأستاذ إسماعيل بن اباه (كان إسماعيل بن اباه يتضرع إلى الله - عز وجل- كل يوم أن لا يميته قبل أن يرى مصير تلك السلطة الغاشمة) حتى عشت يوم 12 /12/ 84 وما آل إليه. وما زلت أتذكر بعض تلك الأحداث التي هاج تذكرَها نعيُ السيد إسلمو ولد الحسن أحد أواخر صناديد فرسان بني حسان الشجعان، تغمده الله برحمته؛ إنه سميع مجيب.

هجرة الأمير العقيد أحمد سالم ولد سيدي ولد مُحَمْدْ لحبيب
كان الأمير العقيد أحمد سالم ولد سيدي ولد مُحَمْدْ لحبيب فارسا وقائدا شجاعا وعلى خُلُق عظيم. وكان صديقا حميما للأمير العقيد أحمد ولد بوسيف رحمهما الله، وأحد القادة الثلاثة الذين لا يطمئن إليهم قادة "مشروع العاشر يوليو" كما يحلو للرئيس محمد خونه ولد هيداله أن يسمي جناحه. وقد حاولوا استغلاله في تحقيق مشروعهم الانهزامي إلى أبعد الحدود بعد وفاة الرئيس أحمد ولد بوسيف. وبدوره حاول هو معالجة الوضع ورأب الصدع وتجنب القطيعة في صفوف اللجنة العسكرية ما استطاع إلى ذلك سبيلا؛ لما يعلم أنه سينجم عن ذلك من انهيار محقق. ولكن انجراف الحكم المدوي في درك الاستسلام للعدو لم يترك لذلك الأمير الحر بدا من الهجرة والعمل على الإطاحة به مهما كان الثمن. وكان يقول معلقا على قطع العلاقات الدبلوماسية مع المغرب والاعتراف بدولة بوليزاريو: "عندما كنت حاكما لبئر أم اقرين تلقيت تعليمات صارمة من الدولة بالعمل على خلق حركة تبادل تجارية وبشرية نشطة بيننا وبين الجزائر، فسخرت كل الإمكانيات في سبيل ذلك، وأقمت المعارض (آمُگّار) وفي النهاية عجزت. وفي زمن الاحتلال الفرنسي ومقاومة الشيخ ماء العينين وهجوم "تگّل" وفي بدايات الدولة الموريتانية عندما كان المغرب يطالب بموريتانيا وينظم عمليات تخريب داخلها، بذلت فرنسا وموريتانيا مجتمعتين ما لديهما من قوة بغية وقف انسيابية الحركة البشرية والتجارية بين المغرب وموريتانيا فعجزتا".
وكان جناح الأمير العقيد أحمد سالم ولد مُحَمْدْ لحبيب يرشحه لخلافة صديقه الرئيس بوسيف؛ خاصة أنه كان نائبه وكلفته اللجنة العسكرية بتسيير الأعمال الجارية بعد وفاته.
ولكن ميزان القوة في اللجنة العسكرية كان يميل لصالح تحالف الجماعة الموالية لبوليزاريو وحلفائها؛ والتي رشحت العقيد محمد خونا ولد هيدالة بحجة كونه "الضابط الذي لا قبيلة له ولا جهة في موريتانيا يخشى أن يقع تحت تأثيرها" خلافا لحالة الأمير. وقد انطلت هذه الحيلة على جل أعضاء اللجنة العسكرية فصوتوا له من أجل مصلحة إنقاذ موريتانيا.
لكن سرعان ما ظهر ما وراء الأكمة حين انخرط حكمه في "مشروعه" الاستسلامي، و بلغت الأمور نقطة اللا عودة. عندها تشاور الأمير العقيد أحمد سالم مع ابن عمه وخاله وصهره أمير الترارزة احبيب ولد أحمد سالم واتفقا على هجرته والتحاقه بحركة التحالف من أجل موريتانيا ديمقراطية التي كان الأمير احبيب قريبا منها لانسجامها مع قناعاته الوطنية ولصداقته مع رجل الأعمال الثائر حابه ولد محمد فال.
خرج الأمير العقيد المهاجر من نواكشوط إلى قرية لبيرد مقر أمير الترارزة. وكان على موعد مع عناصر من الكادحين غير بعيد من قرية لبيرد هم من تولوا تنظيم رحلته إلى داكار. ورغم أن الموعد كان الثلث الأخير من الليل فإن الأمير لم يصل إلى المكان المحدد بين لبيرد وتنوراته إلا فجرا لصعوبة الانسلاخ من ساكنة لبير الذين نظموا له حفلا شعبيا،  فركن سيارة خاله التي حضر فيها في مكان خفي قرب الطريق، وركب مع دليله متوجهين إلى ضفة النهر قبالة "تكشكمبه". و كان أحد عناصر الكادحين في الجمارك قد هيأ للوفد زورقا لعبور النهر. وتم عبور النهر إلى الضفة الجنوبية بسلام. وعلى تلك الضفة كان كل شيء مرتبا في متجر موريتاني: الفطور خبزا وحليبا وشايا. ولكن الأمير لم ينل منه سوى القليل. وكانت سيارة تاكسي جاهزة سلفا لتنقل الوفد إلى داكار.
حاول مرافق الأمير الصعود في المقعد الأمامي فقال له الأمير بل أنا من سيتقدم لأن الذين صمموا السيارات قدروا أن يركب الأطول في المقعد الأمامي وأنا أطول منك. رضخ المرافق للأمر الواقع، وطلب من السائق أن لا يتوقف في الطريق، وأن يتعلل بكون الشريف الذي يجلس بجواره مريضا يجب إيصاله بسرعة إلى المستشفى.
وفي الطريق ألح الأمير على مرافقه بضرورة دراسة ومعرفة تضاريس ومعابر منطقة النهر. وأكد له أن الذين خلفهم وراءه في السلطة لا يرجى منهم خير أبدا لموريتانيا. كما أخبره بأنه كان قد توجه على رأس وفد حكومي إلى ليبيا طلبا للمساعدة، وأن الليبيين ظلوا يسوفون ويعدونه ويمنونه حتى مل أكاذيبهم وعاد إلى نواكشوط صفر اليدين. وكان أشد ما يؤلمه ويحزنه وهو يودع أرض الوطن هو حالة خاله الأمير احبيب المريض الذي قال إنه لم يكن يريد أن يفارقه أحرى أن يسبب له الأذى، ولكن الأمور في الوطن وصلت درجة لا تحتمل أرغمته على الرحيل.
وفي داكار نزل الضيفان عند تاجر آخر قريب للمرافق أكرمهما وذبح لهما شاة. وقد عرف المضيف هوية ضيفه بالقيافة فقال لبعض معارفه إن الذي قدم رفقة فلان هو - لا شك- من أسرة أهل محمد لحبيب الغطارف.
واستلم مرافق آخر في داكار مهمة العناية بالأمير الذي قضى قرابة أسبوع في فندق Hacienda بينما رجع المرافق الذي قدم معه أدراجه وبات تلك الليلة في مدينة نواكشوط.
وقد ماطلت سفارة المملكة المغربية - يقول مرافقه في داكار- في منح الأمير المهاجر تأشيرة دخول حتى فاتته وقائع مؤتمر حركة التحالف من أجل موريتانيا ديمقراطية المنعقد في باريس؛ والذي كان متوقعا أن تتسلط أضواؤه على مقدمه والتحاقه بالحركة. ومن أغرب ما يتذكره عنه مرافقه في داكار حسن خلقه وسلامة الناس من لسانه؛ لحد أنه، وهو الثائر المتمرد على ما وصلت إليه أوضاع بلده من سوء، لم يكن يحمل حقدا على أحد، ولا يغتاب أحدا، ولا يشهر بأحد. وكان عاشقا شديد الهيام بالأهل والوطن والحياة، قوي التعلق والارتباط والتشبث بما يضحي به وما يضحي من أجله.

 

21. ديسمبر 2015 - 18:45

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا