قبل فترة عقدت العزم على هجر النضال ومرابعه والدفاع عن الحقوق ومضاميرها، وأوحت لنفسي السنين وهي تجدف في يم الزمن المظلم مسرعة أن الربوع التي تتهاوى فيها قيم العدل وتتبدد على أديمها حقوق الضعاف والمهمشين جدير بي أن أحزم منها الصرام وأبني فلكي وأغادرها كما غادر نوح بفلكه
قومه وهم ظالمون.. ولكن هذه النية على الرحيل من بلادي إلى الأبد عاجلا أم آجلا لم تغيب يوما عن ذهني قول الشاعر:
ولا خير فيمن لايحب بلاده ..... ولا في حليف الحب إن لم يتيم
وهذا الحب عزيز القارئ أكبر وأجل من الحب العابر الذي تتبادله الأجساد، لأنه حب يرتبط بأسلة الفؤاد وشرايين الكبد، ويهب للعيون نور البصر وللنفس إحساس الألم، فهو الشعور الذي يجعلنا رغم الظلم والإستطعاف والتهميش والحرمان نردد على أطراف ألسنتنا:
بلادي وإن جارت علي عزيزة .... وأهلي وإن ضنوا علي كرام
فيمتلئ القلب طيبا وأفق اليأس المغيم علينا نورا، فلا يبقى في الوجدان إلا المضي على درب واحد.. درب الحق وقول الحق مهما كره الكارهون..
من هذا المنطلق اردت عزيزي القارئ لفت الانتباه لما جري يوم امس في اجتماع المجلس الأعلي للقضاء حيث انهي دورته العادية وانتهي دون أن تتسرب منه أية معلومات وهذا في حد ذاته نجاح يذكر لمعالي وزير العدل الاستاذ إبراهيم ولد داداه بعد ما كانت الصالونات والاروقة هي مصدر الأخبار الأول وفي ذالك ما فيه..
مجلس اختلف كثيرا عن سابقيه في الشكل والمضمون ففي الشكل استقبل الوزير خلال الأسابيع التي سبقته غالبية القضاة بصدر رحب وابتسامة تليق برجل علي دراية واسعة بمختلف خفايا القطاع والعاملين بالحقل، فلقد نشأ من خيرة المحامين و ترعرع من كبار المثقفين وما ينبغي له إلا أن يكون عادلا ومقسطا، أما في المضمون فقد طلب قبل انعقاد المجلس من كافة القضاة إحضار سيرهم الذاتية وهو ما يعني الوقوف على تاريخ المسار المهني للقاضي وما تقوي به من دورات علمية ليظل مواكبا لتطور القوانين ويصبح أهلا لمواكبة القضاء..
ولقد كانت مبادرة ملئ كل قاضي لاستمارة خاصة به تبين مؤهلاته وتخصصه وآخر مكان شغله وعما إذا كان عمل في القضاء الجنائي أم المدني وأيهما عمل به أكثر، مبادرة توحي بفهم الأستاذ إبراهيم ولد داداه لأهمية الخبرة في بلد يسير على طريق الإصلاح..
ولاشك أن ما حدث أمس من تحويلات عكس بصدق جدية إرادة الإصلاح غير أن هنالك لوبي من المفسدين لا يريد للإصلاح أن يكون له مكان في هذه البلاد.. لوبي عمل على ترقية المرتشين ومحرري تجار الممنوعات ومطلقي سراح لصوص الإستثمار وأحال دون ترقية المستحقين.
ان تعيين القاضي الشيخ ولد الويمين المتخصص في قانون الأعمال والحاصل علي دبلوم من المدرسة الوطنية للقضاء في فرنسا ومن قبل شهادة الدراسات المعمقة في قانون الأعمال من المغرب ودكار لرئاسة الغرفة الإدارية بمحكمة الاستئناف في انواذيبو ان لم يكن به مانع للتعيين علي غيرها الا نموذجا من نماذج سطوة ذالك اللوبي وعظمة فساده وعنصريته وراديكاليته، فلأنه من فئة لمعلمين أستضعف وأقصيت شهاداته وخبرته للأسف الشديد، مما يثير لدي سؤال لمعالي وزير العدل السيد إبراهيم ولد داداه:
إذا كانت هذه العشوائية ستطبع التعيينات والترقيات فلماذا كل هذا التعب لجمع السير الذاتية والوقوف على تخصصات القضاة؟
أنا شخصيا لا أفهم من جمعها سوى أنه طوال العقود الماضية من مسيرة موريتانيا نحو التنمية وما تخللها من إخفاقات (وهي كثيرة ) ظلت النظم المتعاقبة منذ عهد الرئيس معاوية ولد الطائع وانتهاء بعهد فخامة الرئيس محمد ولد عبد العزيز رهينة لإرادة لوبي فساد كالأشباح لا مكان محدد تمكن الإشارة إليهم فيه رغم وجود آثارهم بادية كآثار الشياطين والجن على عقول المجانين خلف القرارت والمقررات ومسودات نصوص القوانين والتعيينات الإدارية خاصة منها تلك التي تستهدف عن قصد وحسد الكفاءات والأكفاء من الشرائح الضعيفة.. واليوم بتنا نعرف على الأقل واحد من أوكارهم ومركز من مراكز تأثيرهم على برامج التنمية لفخامة الرئيس محمد ولد عبد العزيز، وكر فضحتهم فيه التحويلات الجديدة المنبثقة يوم أمس عن المجلس الأعلى للقضاء والذي خسرت العدالة على خلفيته عشرات القضاة الأكفاء من خريجي المدارس الفرنسية والإيطالية أحالهم لوبي الفساد ذاك وعدو التنمية إلى محاكم ذات اختصاص بعيد كل البعد عن تكويناتهم وتدريباتهم التي صرفت الدولة عليها ملايين الدولارات، ولعل ما يثير الخوف في مستقبل التقاضي هو أن يعرض ملف تتنازع فيه قوانين تجارية محلية مع أخرى دولية على قاضي لم يبت قط طيلة 10 سنين في غير نزاعات الأحوال الشخصية والطلاق والنفقة، أو أن تعرض عشرات القضايا التي تبرمجها الجمعية العامة للمحكمة العليا على محاكم استئناف يرأسها قاضي سبق له النظر في تلك القضايا والحكم فيها، إذ أن روح القانون المتعلقة بالأستئناف المراد به عرض الملف على قاضي مختلف ستبقى على نفس الأحكام شكلا وموضوعا، إذ كيف لقاضي أن يناقض نفسه بالحكم في قضية سبق له الحكم فيها شكلا وموضوعا..
لقد أراد فخامة الرئيس محمد ولد عبد العزيز منذ أن جاء إصلاح النظام القضائي ما أمكنه ذالك ولطالما عارضنا سياسته ولكن ما يتبين اليوم في ظل هذه الظرفية الإقتصادية والمالية عقب تقرير البنك المركزي يوم أمس هو أن البلاد بحاجة ماسة إلى تجهيز كافة السبل الممكنة وأولها القضاء التجاري لجلب إستثمار خارجي ينقذ البلاد من وضعية معيشية وأمنية صعبة، وإن أول سبيل لذالك ليس سوى الرجل المناسب في المكان المناسب ومراعاة الكفاءة والخبرة في كل قرار وترقية وتحويل
وعلى كل حال هنيئا معالي الوزير، ولقد نجحتم عموما في الامتحان وتلك هفوات يجب تفاديها في المستقبل فالتحديات خطيرة والمسؤوليات جسام