تعتبر موريتانيا ،من بين دول منطقة غرب إفريقيا ،الأكثر تميزا بثرواتها الطبيعية المتجددة منها وغير المتجددة ، والأقل عددا أو نسمات فيها . رغم ذلك ورغم مرور أربعة أو خمسة عقود علي استقلالها ، لا تزال موريتانيا هي أقل هذه الدول جاذبية ،سواء علي مستوي واجهتها الحضارية ، أو علي مستوي
المعيشة ،وظروفها الاقتصادية إجمالا ،وبحسب تحليلات الباحثين ،وتحقيقات المحققين ،ودراسات الدارسين ، فإن عدم التوازن الحاصل بين حجم الثروة الطبيعية للبلد ومستوي العيش فيه ، يعود إلي الفساد الذي استشري في مفاصل هذه الدولة منذ أن وضع لها حجر الأساس ... وبالفعل لهذا التحليل ما يبرره ، حيث أن هذه الدولة الناشئة ، تجذرت فيها القبلية ، والجهوية ، وطغي فيها منذ البداية ، تحكم الجاه وأصحابه ..، لأن أبناء الوجهاء ورؤساء القبائل هم الذين أمسكوا زمام الأمور في هذا البلد بعد رحيل المستعمر، كنتيجة طبيعية لولوجهم التعليم ، في مدارس أبناء الشيوخ ، في الوقت الذي منع أبناء عامة الناس من التمدرس من قبل ذويهم ، كردة فعل علي الاستعمار غير المرحب به في بلاد العلم والعلماء .... كمظهر من مظاهر المقاومة الشعبية العفوية للمستعمر الفرنسي .
وإذا كانت تلك القراءات العلمية ، لها ـ كما رأينا ـ مايبررها ، فإنها ظلت عاجزة عن تفسير كل مايمربه هذا الشعب المسكين ، من كوارث وأحداث إنسانية (نسبة إلي الإنسان ، لا إلي الطبيعة)، وهو الأمر الذي يبرر البحث عن قراءة جديدة تستطيع إشفاء الغليل بتفسير مقنع ، ولعل قراءة الطالع ، أو العودة إلي صفحاة القضاء والقدر ، قد تمكننا من إيجاد تفسير تطمئن إليه الأنفس ، رغم عدم استناده إلي معطيات علمية ، لكن حسبنا في الثقة به أن العقيدة (أصل الدين ) لا تخضع لتلك المعطيات ولا تفسر بها ، ولا تفقدها اللاعلمية مصداقيتها.
ففي منتصف عقدها الثاني ، وقبل أن يتم تأسيسها دخلت الدولة الوليدة في حرب أنهكتها ، وتعلمون جميعا أن ضريبة أي حرب هي التي يدفعها الطرفان علي حد سواء ، وهي إرجاع المتحاربين خطوات إلي الخلف ... وهو مالم تكن الدولة الموريتانية قادرة علي تحتمل تبعاته .....مما يعني أن موقفا سياسيا معينا ، وقرارا بدخول الحرب ، أدي إلي تعثر حظها في بداية عهدها ،ووجودها السياسي.
وإن صح ما يذكر :أن بداية حكم معاوية ولد الطائع ، كانت بداية مشجعة ،حيث تحدث عن عزمه القضاء علي القبلية والجهوية ... لكن جهات أو أشخاص .. غيروا مساره السياسي ، فجذر كل ما كان يريد القضاء عليه ، ومعني ذلك أن القدر وسوء الطالع،جاء إلي الموريتانيين مع عدم قوة الرجل ووجود من له رغبة وغريزة التأثير علي السلطة وتوجيهها فقدر للبلاد أن تعيش البلاد عقدين من الزمن في ظلام دامس ...يكسوه أو يحيط به نور مكذوب ... إذ لا فعالية للنور في تبديد الظلام ،إلا إذا كان منبعثا من داخل ذلك الظلام ....
وفي سنة 2005 انبعث نور كالذي يري في آخر النفق ، وسرعان ما ازداد وانتشر ذلك النور تدريجيا،إلي أن قويت أشعته وانتشرت في كل اتجاه مبددة الظلام ـ كالأشعة الطبية... ـ في بحثها عن الوجع لاستئصاله . حصل ذلك مع التغيير الذي حدث في السادس من أغسطس سنة 2008 ، فبدأت الحرب علي الفساد ، وبدأ إعمار الوطن ، فانتعشت البنية التحتية ، وازدهر اقتصاد البلد ، وقويت لحمة الوطن القائمة علي وحدة الدين ، واعيد الإعتبار لتاريخه : البطولي ،والعمراني ،والثقافي ...(الحضاري عموما) ،وضاقت الهوة بين القيادة والشعب ، فأصبح هذا الأخير في المدارس والمستشفيات وفي الكزرات ، والأسواق ، وفي بيوت الضعفاء،وخرائب المدن ، خير صاحب يطمئن الأول إلي أن يوجد معه ـ ظاهرة حدثت لأول مرة في تاريخ البلد ـ ولأول مرة يسجل الفعل الدبلوماسي للبلاد أعلي رقم قياسي له حتي الآن في الرفع من مستوي وسمعة البلد في المجتمع الدولي ،وتأثيرها في سياسته الإقليمية، والقارية ، والدولية عموما .....وأعيد الإعتبار إلي الجيش الوطني ،وقوات الأمن ،فتمكنوا من بسط الأمن وإغلاق الحدود في وجه الإرهاب،ومع كل ذلك ،يظهر من بين ظهرانينا من ينكر الموجود المتحقق بالفعل من إنجازات لم يُسبق إليها هذا النظام ، ويشكك في حصول المأمول !!، ويود لو توقفت تلك الإنجازات الكثيرة في مختلف الميادين !!، ولو بموت صاحبها ، أو بعزله!!.
إذا علمنا أن هذا المنكِر.. هو ذلك الناشط السياسي ...الذي وقف يوما إلي جنب هذا القائد (الإستثناء) ودعمه في مسيرته التنموية المظفرة ، وإذا علمنا أنه انقلب علي هذه القائد دون سبب وجيه !!، إذ لم يغير هذا الأخير سياسته في تسيير البلد ، ولم يكِل من محاربة الفساد ،رغم صعوبتها وكثرة العوارض عنها ،والأخطار التي تتسبب فيها ، وراح ذلك المنكر يخطط الخطط للنيل من النظام ،ومن أمن البلد عموما ، تحت غطاء النشاط السياسي (الحزبي) ، ومنذ ذلك الوقت وإلي حد الساعة ،وهو يسعي إلي تعطيل مسيرة البناء والتشييد التي أطلقها الرئيس الحالي منذ وصوله إلي السلطة ، ولا أدل علي ذلك من عدم استجابته للدخول في حوار وطني شامل ، مع النظام والمجتمع المدني.
إذا علمنا كل ذلك ، وكنا مؤمنين بالقدر خيره وشره ، فإننا لن نرتاب في أن ننسب ظاهرة معارضة النظام الحالي (غير الديمقراطية ) إلي قدَر هذه البلاد ، وسوء طالعها ـ للأسف الشديد ـ فكلما أراد لها بعض أبناءها التقدم والازدهار ، وقف في وجوههم البعض الآخر ، ليشكل حجر عثرة أمام طريقهم !!.ولن نرتاب في القول إن سوء الطالع ـ أيضا ـ يطارد الموريتانيين حتي من خلال الدستور ، بأن جعله حائلا وعائقا قانونيا أمام أي محاولة جادة للقضاء علي الفساد !!.
فما نشاهده اليوم من صعوبة بالغة ، في القضاء علي الفساد ، يرجع بالأساس إلي تلك التراكمات التي حولته إلي ظاهرة سيئة ومتجذرة في المجتمع ، والظاهرة الاجتماعية ـ عادة ما تكون ـ عصية علي التغيير ،إلا بجهد ومراس قوي ومستمر لفترة من الزمن ليست بالقصيرة، وهي ـ لسوء طالع البلد ـ الفترة التي لم يُحسب لها حساب في تعديل الدستور الأخير...!!، ربما لعدم توقع أن يصل إلي السلطة في البلاد من سينهض بتلك المهمة !!، أو لعدم الوعي بضرورة وضع محاربة الفساد ضمن أولويات العمل السياسي !!، إذ لا يمكن أن نتصور النهوض بمهمة المحاربة الجذرية للفساد من غير مؤسسة الرئاسة، ولذلك فعشر سنوات فقط لا تمكن من تحقيق تقدم كبير في مجال محاربة تجليات الظاهرة الآنفة الذكر: السياسية، والأخلاقية، والاجتماعية...
وفي الثالث عشر أكتوبر سنة 2012 تعرض الرئيس محمد ولد عبد العزيز لطلقة نارية ، وكانت خطأ من أحد الجنود الموريتانيين ، ولولا رعاية الله ورفقه ورحمته بعبده المصاب لفارق الحياة ،لكنه بفضل من الله سبحانه تعالي ،طاف بالكعبة الشريفة العام المقبل حاجا وفي نفس يوم إصابته، مما يعني أن الله يحبه ويرعاه، وإلا لما ابتلاه بتلك الإصابة ، ولما ابتلاه بفقد أخيه ، وفقد ابنه الشاب الظاهر الطيب ،فمن هيأه الله تعالي لتحمل المسؤلية ، لابد أن يعوده علي الصبر، ليتمكن من إنجاز تلك المهمة علي الوجه الأكمل ، ولذلك فإن ما نراه اليوم من معارضة شديدة لنظام ولد عبد العزيز ، هو ما يحتاج الرجل إلي الصبر عليه خدمة لمن لم تصلهم يد العون من قبل، فابتلاه الله بتلك الإصابة فصبر، وابتلاه اليوم بما هو أقسي ( فقد ابنه أحمدو) فهو صابر يحتسبه عند لله .
ولو أن حادثة إطلاق النار علي الرئيس أودت بحياته ،لكانت قد أفقدت البلاد أحد أهم أبنائها علي الإطلاق ، ولكانت ستفقد بفقده التقدم علي الطريق المنشود الذي يحدث : ببطء كان ،أو بوتيرة متسارعة ، بمعني أنها كانت ستنحرف عن المسار لتدخل في فضاء من الفوضي غير المحدودة إلا بتضخم المصالح الشخصية لدي قادتها السياسيين !!.
وفي منتصف يوم الثاني والعشرين من ديسمبر الجاري ، خطف الموت فجأة نجل الرئيس محمد ولد عبد العزيز ، وهو يواسي الفقراء والمساكين في مختلف ربوع البلاد ، حيث ملأت الرحمة قلبه فانقلبت علي محياه نورا ساطعا ، فكان بشوشا وذو طلعت بهية ، ورغم صغر سنه ، نهض بما لم يخطر علي بال لغيره ممن أعطاهم الله نعمة المال والصحة :إنشاء هيئة خيرية ، تحمل علي عاتقها ، رسالة إنسانية مفادها ، أن صِلوا الناس الأكثر فقرا في أماكنهم ، ولا تكلفوهم عناء الذهاب إليكم (الهيئات الخيرية) ، وسميت هذه الهيئة الخيرية "هيئة الرحمة"، فقد اختار لها رئيسها المرحوم بإذن الله أحمدو ولد عبد العزيز ، هذا الاسم الذي هو اسم من أسمائه تعالي وصفة من صفاته ،التي لا يمنحها إلا لمن يحبه ويرضي عنه ، وبالفعل فقد ملأ بها قلب المرحوم حتي امتدت يداه مملوءتان ، من مختلف الإعانات ليأخذها بشكل مباشر ودون واسطة ، المعنيون بها ممن هم أكثر فقرا واحتياجا في مختلف ربوع البلد .
ففي العمل الخيري : تري ماذا لو طال العمر بتلك الزهرة الزكية ، ودام معها الخير واستمر وصوله إلي الفقراء والمساكين ، ألم يكن من المتوقع أن يحذوا حذوه آخرون ممن لديهم سعة من المال ،فينتشر العمل الخيري علي نفس المنوال ، فيباشر صاحبه أصحاب الحاجات بما لديه من إعانات، إنه رغم رحيل صاحب هيئة الرحمة ، فإنه قد سن سنة حسنة لن ترحل أبدا ، وله أجرها وأجر من عمل بها إلي يوم الدين .
وفي العمل السياسي :ماذا لوطال العمر بذلك الشاب الناضج،المتواضع في علو، صاحب الأخلاق الرفيعة،ماذا لو طال به العمر قليلا وقدم لنا أنموذج السياسي الرحيم ،الصادق ،المتواضع ،الذي يؤثر علي نفسه ،ويأخذ من وقته وماله لمصلحة غيره ممن يحتاج أن تقدم له يد المساعدة ، ماذا لو وصل إلي الحكم يوما، أوكان في صف المعارضة بتلك المزايا والخصائص ، والصفات الحميدة، التي أدلي بها من يعرفونه حق المعرفة عند سماعهم نبأ وفاته ، ألا ترون أن سوء الطالع هنا يطارد الموريتانيين حتي بالموت؟! ، حيث منع أن تكتحل عيونهم بمثل المرحوم أحمدو ولد عبد العزيز: رجلا ناشطا في المجتمع المدني ، أو سياسيا رحيما بصحبه وبمعارضيه ... أفلا يعني رحيل أحمدو ولد عبد العزيز عن هذه الدنيا الكئيبة، والرصاصة التي كادت أن تودي بحياة والده ، السيد الرئيس محمد ولد عبد العزيز ـ أن الموت يطارد سعد وخير ومصلحة الموريتانيين ؟!.
تري ما الذي بوسع الموريتايين أن يفعلوه ؟!، فإذا كانت الحوادث التي تعود إلي أسباب ومعطيات العلمية ، يمكن معالجتها بالطرق العلمية ، فكيف تتم معالجة سوء الطالع هذا ؟، والتحول منه إلي ما فيه خير البلاد والعباد ؟ . إنه ليس بالأمر الصعب،فبالدعاء بالخير للأمة والشعب في المنابر ،وبإشاعة التراحم بين مكونات المجتمع،وبتحلي السياسيين ما استطاعوا بالصفات الحميدة ،والعلم بأنها لا تناقض العمل السياسي،وبتركهم للغدر والخيانة والتباهي بجمع المال الحرام،واعتبار ذلك بطولة بالتقليل من شأن عقوبته في الدنيا ،واعتبارهم أن العمل السياسي يقوم علي الدهاء والمكر والخداع ،فبالدوام علي الدعاء ، والدوام علي العمل بمقتضي تنقية العمل السياسي من الشوائب ، سيختار الله لنا أمر رشد ، ويقدر لنا أحسن الأقدار ، فلنكن مستعدين لتغيير أنفسنا نحو الأحسن حتي يقدر لنا الله ما نريد ، وليكن قبول الجميع الدخول في الحوار الوطني الشامل المزمع القيام به ، أول دليل علي حصول ذلك الأمر.
إن حوادثا متعلقة بشخص الرئيس محمد ولد عبد العزيز: كحادثة حشد المعارضة لترحيله بالقوة ،دون ذنب اقترفه ، وحادثة الطلق الناري الخطير ونجاته ونجاة البريء منه ،وحادثة صبره في فقد أخيه، وحادثة وفاة المرحوم أحمدو في الأيام الماضية وصبره الجميل ،لينبئ كل ذلك عن إرادة خفية ، نميل إلي القول بأن الله سبحانه تعالي ، قد حفظها وأراد لها أن تبقي لأمر يريده ، ونتمنى أن يكون ذلك الأمر هو نهاية سوء الطالع، وسوء الحال الذي يعاني منه بلدنا منذ نشأته .