من التوقع ألا يتجاوز محصول حملة الأرز الحالية، التي تشرف على انتهاء حصادها 40% من المحصول المتوسط للحملة الزراعية العادية .
وإذا ما عرفنا أن محصول الحملتين الزراعيتين خلال العام الماضي، بلغ نحو 293000 طن من الأرز الخام ،حسب الاقام الرسمية،
التي أعلنت في الأيام التفكيرية الأخيرة حول الزراعة، إذا ما عرفنا ذلك، سندرك أن البلاد فقدت من محصولها قي هذه الحملة 87900 طن من الأرز الخام، قيمتها المالية نحو 8.790.000.000 أوقية( 87900 ×100.000 أوقية) .وهذا يعني أن حكومتنا مضطرة إلى تحويل مثل هذا المبلغ، من العملة الصعبة ،إلى تايلندا ،لزيادة الوردات من الأرز. كما أن موسم الاستعداد للحملة الصيفية، دخل من دون أي اكتراث من المزارعين والحكومة، مما ينذر بتكرار كارثة انهيار المحصول في الموسم المقبل كذلك .
ولا يبدو أن لدى حكومتنا حتى الآن، لإنقاذ هذا الموقف، إلا المواعظ المتسربة من اجتماعات رسمية، لا يدعى إليها إلا أعضاء من . فكيف نفسر هذا السلوك الحكومي الغريب ؟
لدى الموريتانيين مشكلة تاريخية مع الزراعة ، تعود إلى عهود ضاربة في القدم . فابن حوقل ( من رحالة القرن الرابع الهجري )يقول إنهم لم يعرفوا البر، ولا الشعير، ولا الدقيق، إلا في الذكر .
والرحالة والمغامر الفرنسي موليين، الذي زارنا سنة 1818 يقول :.
فثقافة البيضان الاقتصادية، ظلت على مر العصور، ثقافة جمع ومبادلة، لا ثقافة خلق وإنتاج .
فمن جمع الملح والصمغ للمبادلة، إلى جمع الحديد والسمك للغرض نفسه.
وهذه نقطة ضعف شعوب إفريقيا الغربية، التي جعلت نهري النيجر والسنغال، يتخلفان عن لعب دور حضاري، كذلك الذي لعبته أنهار أخرى كالنيل ودجلة والفرات .
ويشرح المؤرخ الهندي مادهو بانيكار، في كتابة عن سكان غرب إفريقيا (الوثنية والإسلام، ترجمة أحمد فؤاد بلبع) :.
وينحو هذا الباحث الهندي باللائمة، في تخلف الزراعة في منطقتنا هذه، على العائدات الضخمة التي كانت تؤمنها تجارة الذهب، والرقيق، مما سمح للطبقات الحاكمة بإهمال الزراعة .
وإذا ما أضربنا صفحاعن التاريخ والمؤرخين، وعدنا إلى واقع حكومتنا اليوم، فإنه لا يمكن تفسير موقفها غير المبالي، إلا بأحد احتمالين لا ثالث لهما:
إما أن حكومتنا تعاني مما يعرف في الفلسفة بالأ لينة .أي أنها ترى واقع الزراعة بلون وهمي، ناتج عن نظارات التقارير الزائفة، لممثليها على الأرض. وهذا يعني أن حكومتنا لا يمكن أن تتحمل مسئولياتها، في إنقاذ القطاع، ما لم تحقن ممثليات زراعة الكذب في اترارزة، بجرعات مضاعفة من الصدق، حتى يجد أكسجين حقيقة الواقع، طريقه إلى المستويات العليا في الحكومة .
أما الاحتمال الثاني، فهو أن حومتنا مدركة للكارثة، التي حلت بالقطاع الزراعي، لكنها عاجزة تماما، من الناحية المالية، عن تامين متطلبات تداركها، ولذلك لا يبقى أمامها إلا تجاهلها، أو حتى إنكارها .
ومعروف لدى علماء النفس، أن الإنسان يميل إلى تجاهل الخطر الوجودي، الذي لا يملك أي سبيل لدفعه. وهو ما يجد مثالا آخر له، في تجاهل سكان انواكشوط، للتقارير العلمية التي تتوقع غرق 79% من المدينة، خلال سنوات محدودة. ويقول علماء النفس أن هذا شكل من أشكال التمسك بالبقاء. إنها الطريقة الوحيدة المتاحة، للمحافظة على التوازن النفسي .
وبما أن ما تصرفه الحكومة على الزراعة، هو استثمار، وليس مساعدات اجتماعية، فإننا نرجح الاحتمال الأول ،وهو ما يجعلنا نناشد وسائل الإعلام، تحمل مسئولياتها، أمام المجتمع، والتوجه إلى شمامه الآن، ما دامت معالم بادية . وليقابلوا المزارعين العاديين، الذين سحقوا سحقا . ولينكبوا عن النقابيين النزاعين إلى التملق. فالحقائق تواجه خطر محدقا، لأن سحرة فرعون سيطمسونها بتقاريرهم الكاذبة، بمجرد انتهاء عمليات الحصاد .
والشيء الغائب عن حكومتنا، هو أنه، حتى لو عادت إلى شراء المحصول الوطني بالأسعار السابقة ، فان عودتها لم تعد كافية لإنقاذ الموقف .فهذا الإجراء قد يمنع انهيارا سريعا كالذي حدث في هذه الحملة، لكنه، بالتأكيد، لا يمنع تآكل المساحة الزراعية، وتراجع القطاع بشكل مطرد . ذلك أن سعر 100.000 أوقية لطن الأرز الخام، لم يعد سعرا مجديا اقتصاديا للمزارع.
ففي خريف 2008 كان كاتب هذا المقال، رابع أربعة نقابيين، يفاوضون مستشاري الحكومة، من أجل تحديد سعر الأرز الخام ، وهي المفاوضات، التي انتهت باتفاق تم اعتماده خلال اجتماع عقده الطرفان، مع الوزير الأول آنذاك، نص على شراء الأرز الخام الممتاز بسعر 100.000 أوقية للطن.
لقد كانت هناك يومها، إرادة حكومية قوية، بإرسال رسالة مطمئنة، إلى المنتجين الزراعيين تدفعهم إلى زيادة الإنتاج . ونتيجة لهذه السياسة، تضاعفت المساحة والمحصول ، وزادت المردودية . كما قفزت أسعار الأراضي الزراعية بنسبة 150% ، وارتفعت إيجاراتها بنسبة 300%.
ومنذ ذلك التاريخ، لم تتغير الأسعار الحكومية لشراء الأرز الخام ، برغم الارتفاع المطرد لتكاليف الإنتاج. فأجر الحاصدة مثلا، قفز من 24.000 أوقية للهكتار، عام 2008 ، إلى 60.000 أوقية حاليا.
واجر العامل، ارتفع من 25.000 تلك السنة، إلى 45.000 حاليا .
وهذه حقائق يصعب إقناع الحكومة بها ، لأن المشكلة الكبرى، تكمن في أن كذب أعوان الحكومة، جعل عربة القطاع الزراعي أمام حصان هذه الحكومة .
ويزيد من قتامة الموقف، أننا نحاول تطوير الزراعة، بمسئولين ضد المحاسبة، تدريعا تقاصرت دونه أحدث الدبابات الغربية .
فهل هذه حالة مجتمع، يتهيأ لمضاعفة إنتاجه الزراعي، خلال السنوات العشر المقبلة ؟
لست أدري..!
ولماذا لست أدري ؟
لست أدري ..!