لا أحد ينكر ما للتعليم من أهمية قصوى في إحداث تحولات كبيرة وهزات عميقة في النسيج المجتمعي، باعتباره البوابة الكبرى التي يتم الولوج منها إلى التنمية الشاملة، واللحاق بركب الدول التي تبوأت مكانة هامة في سلم الرقي والازدهار، ومعنى هذا أن كل المجتمعات التي تروم أي إقلاع اقتصادي
أو اجتماعي، لا مناص لها من أن تتخذ من مجال التربية والتكوين منطلقا أساسيا نحو تحقيق أهداف تنموية في كل الجوانب وعلى كافة الأصعدة، وبالتالي، فإن أي إصلاح أو تغيير في بنى المجتمع يمر حتما عبر إصلاح منظومة التربية والتكوين، لأنها الكفيلة بالنهوض بأوضاعه وتحرير أبنائه من براثن الفقر والجهل، والارتقاء بهم إلى عوالم التطور والتقدم العلمي والمعرفي، والمنظومة التربوية ـ للإشارة ـ عبارة عن طوق من عدة حلقات، وبعمل الحلقات جميعها وإكمال بعضها لبعض فإن المنظومة يمكن أن تحدث التغيير والإصلاح المنتظرين منها، أما إذا كانت إحدى الحلقات غائبة أو مغيبة فإن ذلك سيسبب ثقبا في المنظومة ككل إن لم يود بها فإنه سيصيبها بشلل جزئي يجعلها شاحبة عاجزة عن أداء دورها على الوجه الأكمل،، من هنا تأتي أهمية الحديث عن حلقة أساسية ضمن طوق المنظومة التربوية الوطنية، وعن مكون أساسي من مكونات الحقل التربوي في البلاد، كانت ولا تزال وستظل حجر الزاوية في أية عملية تروم من خلالها الدولة النهوض بالمنظومة التربوية في شموليتها: إنها هيأة التفتيش التربوي والتي تفرض نفسها باستمرار لما لها من دور فعال في تأطير العملية التربوية وتقويم أدائها على مستوى الأفراد والمؤسسات.
إن دور التأطير والمراقبة اليوم لم يعد مختزلا في قيام المفتش التربوي بزيارات فصلية، وإعداد تقارير تضم تقويم أداء المدرسين وتذييلها في بعض الأحيان بنقطة امتياز، قد تمنح المدرس فرصة اجتياز امتحان مهني أو الترشح لشغل منصب مدير مدرسة، بل أصبح من أهم العمليات الكفيلة بتصحيح المسارات التعليمية وتطوير أداء الفاعلين التربويين، والارتقاء بالحياة المدرسية، وتفعيل الأندية التربوية والرفع من جودة وفعالية مشاريع المؤسسات والرقي بجودة التعلمات، فالمفتش إذن هو من يُعَول عليه في البحث التربوي ورصد حالات الاختلالات التربوية والمهنية، والبحث لها عن الحلول المناسبة بالتنسيق مع الأطراف المتدخلة في العملية التربوية، من مدرسين ومديرين، وجمعيات ومؤسسات ومتخصصين، واقتراح مشاريع تتعلق بمختلف مكونات المنهاج المدرسي والمقررات الدراسية، كما أنه هو الساهر على تأطير المدرسين وإطلاع كافة الفاعلين على مستجدات المجال التربوي والديداكتيكي عبر تنظيم لقاءات تربوية وندوات ترتبط بالمقررات والطرائق وكيفية استثمار الوسائل والمعينات الديداكتيكية ومساعدتهم على كيفية اختيار الأهداف التعلمية المرتبطة بمجالات التعلم وصياغتها واخضاعها للتقويم الموضوعي والعلمي المؤسس على معايير ومؤشرات قابلة للقياس، بالإضافة إلى هذا وذاك يقوم المفتش التربوي بدور أساسي في تنشيط العمل التربوي داخل المؤسسات التعليمية من خلال توجيه المدرسين ومساعدتهم وتشجيعهم على البحث والإبتكار المستمرين عن طريق توظيف مختلف تقنيات التنشيط التربوي واستثمارها، ومن خلال دورات تكوينية، وتنظيم دروس تجريبية و ورشات عمل تطبيقية، كما أن المفتش التربوي هو من يباشر افتحاص الجودة بالمؤسسات التعليمية، ويحدد الفارق بين الوضعية الراهنة والوضعية المنتظرة، وهو الذي يقوم كذلك بدور الوساطة التربوية والتنسيق بين مختلف المدارس الخاضعة لإشرافه، حيث ينقل التجربة الناجحة من مؤسسة تعليمية إلى أخرى في إطار التعميم والتشجيع الدائم على البحث والابتكار والتميز، كل هذا من خلال التواصل الفعال مع جميع أطراف العملية التربوية والتأسيس لعلاقة طيبة معهم، علاقة من شأنها أن تهيئ المناخ الملائم وتُنضج الظروف المناسبة للقيام بالرسالة التربوية على أكمل وجه،،، من هنا يتضح الموقع الأساسي لهيأة التفتيش ضمن النسيج التربوي، موقع بات من الضروري مراعاته واستحضاره في كل التدابير والإجراءات التي تروم إصلاح المنظومة التربوية، موقع يحتم على الدولة الجادة في الإصلاح إمداد المفتش التربوي بالإمكانيات المادية واللوجستكية التي تيسر له القيام بمهامه وأدواره في أحسن الظروف وتربطه بمجاله التربوي للاستزادة منه والإبداع فيه، للإسهام الفعلي في النهوض بالمنظومة التربوية مما يحقق التنمية الشاملة في البلد.
إن المتأمل لدور المفتش اليوم عندنا في القرن الواحد والعشرين يجده لا يزال مقتصرا على الدور التقليدي المتمثل في زيارات خاطفة في نهاية السنة لتفتيش المدرسين، وإن هذه الزيارات لا تتسم بالانتظام والشمولية نتيجة للفوضية التي تطبع الخريطة المدرسية، وانعدام الوسائل لدى مفتشيات المقاطعات والتي تمكنها من التواصل مع كل المدارس، فتبقى الزيارات إذن مقصورة عل المدارس الحضرية في أغلب الأحيان، ويبقى الدور المهم والأساس للمفتش وهو التنشيط التربوي بالتأطير والتكوين والمواكبة ونقل التجارب والخبرات واقتراح الأنشطة الموازية والبحث التربوي....مغيبا مع الأسف،،!
إن انعدام الوسائل لدى مفتشيات المقاطعات يشكل عائقا حقيقيا أمام تنشيط العملية التربوية، وبالتالي بلوغها الفعالية والجودة المرجوة منها، كما أنه أدى إلى تغييب أو تهميش المفتش التربوي عن العملية التربوية برمتها وهو الفاعل الرئيسي فيها، فلا تكاد تجد في المقاطعة ـ أية مقاطعة ـ إلا مفتش المقاطعة يتجول في المدارس القريبة من مكتبه على أقدامه للتفقد فقط، هذا إذا لم يكن يملك سيارة شخصية أما بقية المفتشين المحسوبين على المقاطعة فقد وُضع لهم الحبل على الغارب، لأن المفتشية لا تملك الوسائل التي تمكنها من إعداد برنامج تنشيطي إنعاشي وتنفيذه على طول السنة الدراسية لجميع المدارس وتُشغل فيه هؤلاء، وهذه القضية أدت كذلك إلى إبعاد المفتش عن مجاله مما قد يؤدي به إلى عدم الفعالية في المجال الذي أصبح لا يواكب مستجداته ولا يستزيد منه، لأنه بدا له من السلطات تجاهلا واستغناء عن خبراته، وهذا أمر في غاية الخطورة، لأنه ينذر بانحسار البحث في المجال التربوي، وبالتالي انكماش المدرسة والعملية التعليمية التعلمية برمتها، لأن التعليم تربية أو لا يكون، والتربية بحث مستمر ومواكبة دائمة لمستجدات تولد في الثانية.
إن على الدولة أن تعيد النظر إلى هذا القطاع الذي أهملته طويلا وتجاهلت دوره لإعادة هيكلته وتنظيمه ونفخ الروح في دوره الميت وجعل أطره في واجهة المشهد التعليمي وتمكينه من الوسائل التي تمكنه من إحياء المدرسة في هذا البلد، وإن المدرسة في هذا البلد لميتة إلا أنها لم تُدفن بعد.