احتفل الفرنسيون قبل أيام بعيد رأس السنة 2016 في ظروف مختلفة عن احتفالهم به في المرات السابقة، و أطلقوا على هذه الذكرى " العيد الكئيب "، فقد تراجعت الحجوزات على المقاهي والمطاعم والمسارح بنسبة 50%، وتراجع عدد الزوار الذين تعودوا قضاء عيد رأس السنة في فرنسا بنسبة مماثلة،
وألغيت العديد من المظاهر الاحتفالية المعهودة في هذه المناسبة كالألعاب النارية وغيرها، وذلك بسبب التهديدات الإرهابية والظروف الأمنية الحرجة التي تمر بها البلاد، على إثر الهجمات المسلحة التي عرفتها باريس أوائل وأواخر سنة 2015، وما تلاها من قوانين طوارئ و صدمات أربكت حياة الفرنسيين، وطالت حتى ثنايا دستورهم العريق بتقاليد الحريات والانفتاح.
وألقى الرئيس فرانسوا أولاند خطابا بالمناسبة قال فيه " لم ننته بعد من الإرهاب فالتهديدات لا زالت قائمة، ولا زلنا نفكك من حين لآخر خلايا ومجموعات كانت في طريقها لتنفيذ المزيد من الهجمات داخل بلادنا " بينما قضى وزير دفاعه عيد رأس السنة على متن حاملة الطائرات " شارل ديكول " المرابطة في مياه منطقة الشرق الأوسط.
لقد ظلت السلطات الفرنسية تصر على تصنيف منطقة هامة من خريطة بلادنا منطقة حمراء يحظر على الرعايا الفرنسيين زيارتها، وذلك برغم الأمن والأمان المستتبين في هذه المنطقة بفضل الله أولا، وبفضل الوعي المبكر من قبل السلطات لمحورية الأمن، وتربعه على رأس الهرم في أي سياسة اقتصادية أو تنموية أو سياسية يراد لها الاستدامة والنجاح، مع اليقظة والتأهب الدائمين، فلا أحد يمكنه التنبؤ بما تخبؤه الأيام وما يتحينه المتربصون من فرص، وما يبحثون عنه من ثغرات..
نتفهم حساسية الوضع بالنسبة للفرنسيين والغربيين عموما، فاختطاف أو قتل مواطن غربي، يكلف الحكومات هناك أضرارا جسيمة، لا على المستوى المعنوي والأخلاقي بالأساس كما يتبادر لنا، وإنما على مستوى ما نعتقد نحن في العالم الثالث أنه يخصنا وحدنا، أي التعلق بالسلطة والتشبث بها.. فعندما يضع رئيس، أو رئيس حكومة غربي يديه على رأسه عند إبلاغه بنبإ خطف أو قتل أحد رعاياه، فإن أول ما سيتحسسه من حواليه، هو الأثر الرجعي لذلك على شعبيته وفرصه، أو فرص حزبه، في البقاء على سدة الحكم، وهو يسارع إلى التصريح بالعزم على تحرير تلك الرهينة أو معاقبة القاتلين، أو يستقبل الرهينة المختطفة في المطار بعد تحريرها، فإن حسابات الربح والخسارة السياسية والانتخابية هي المحرك الأساسي لذلك كله.
وفي الوقت الذي كانت فيه مناطقنا المصنفة حمراء بمقياس ودرجات الخطر بالنسبة للفرنسيين، بقيت هذه المناطق ولله الحمد " خضراء " بمقياسنا نحن، آمنة مطمئنة يأتيها رزقها كل حين، تجوبها وتراقبها قواتنا المسلحة وقوات أمننا، يعيش سكانها بسلام ونقيم فيها أعيادنا ومناسبتنا الثقافية السنوية بحضور الضيوف الأجانب ومن بينهم فرنسيون أحيانا.. في الوقت الذي كانت فيه هذه المناطق التي هي مناطق نائية آمنة " احمر " قلب باريس فجأة،لا على خرائط ومؤشرات درجات الخطر والتهديدات الإرهابية، وإنما بدماء مئات القتلى والجرحى في هجمات على أماكن ليست فيافي الصحراء الكبرى، ولا جبال " إيفوغاس " أو " طورابورا "، وإنما مسارح ومطاعم وملاعب في قلب عاصمة غربية توزع أجهزتها الأمنية والاستخباراتية اللون الأحمر على مناطق العالم بسخاء..
لا نقول هذا من باب التشفي، فلا نتمنى للعالم وللبشرية إلا الخير والسلام، حتى لمن يخالفوننا الثقافة والعقيدة (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة )، وندرك أن أمننا من أمن العالم، ورخاؤنا الاقتصادي من رخائه، فلم نعد نعش تلك الحقبة التي نتنقل فيها على ظهر الجمل، ونأخذ الماء بالدلو، ونضيء بالحطب، ونكتب بالدواة، ونتعالج بأوراق وقلف الأشجار.. كما ندرك أن مشكلات البشرية من تخلف وفقر وجوع وأوبئة وأمراض، لا يمكن حلها أو التخفيف منها إلا في كنف الأمن والسلم العالميين، وأنه عندما يرتهن العالم للخوف والرعب والتهديدات، ستأخذ الحقوق والحريات، وغيرهما من الآمال والتطلعات، مكانها المتأخر على سلم الأولويات، ليصبح استتباب الأمن على رأس هذه الأولويات، وما سواه مؤجل.
ويا ليت " نشطاءنا " المحليون، من غير الميكافيليين، يضعون ذلك نصب أعينهم ويسقطونه بوعي على واقعنا المحلي، ويدركون أن ما لم يُنل من الحقوق والحريات، ويتحقق من الآمال والتطلعات في ظل الأمن والاستقرار، لن يتحقق في ظل الفوضى وانحلال الكيانات والمؤسسات وطغيان شريعة الغاب، إلا إذا كان المبدأ هو " علي وعلى أعدائي " ! فليس بالجديد فكر الهدامين الذين يوهمون البسطاء بأنه بمجرد هدمهم لنظام اجتماعي أو سياسي معين، ستمتلئ الأرض عدلا ورخاء على أنقاضه! ولن يقول هؤلاء للبسطاء بعد أن يوقعوهم في السراب، إلا كما قال الشيطان للإنسان: اكفر.. ( فلما كفر قال إني بريء منك إنيَ أخاف الله رب العالمين ) ولو كان يخاف الله، كما يدعي، لما عصاه بأمر الإنسان بالكفر..!
لسنا كذلك ممن يعلق آمالا على التغيير من واقع المسلمين، وما تخضع له مناطقهم من ظلم ومقدساتهم من تدنيس بآخر الدواء.. " خرق سفينة العالم " لإغراق أهلها في بحار الدماء وأكوام الدمار، خاصة إذا كان من هذا نهجه وفكره لا يفرق في ذلك بين المسلم وغيره، بل يجرب أسلحته وأحزمته الناسفة على المسلمين أولا لزهق أرواحهم، وهدم ديارهم، وترميل نسائهم، وتيتيم أطفالهم، ومن ثم يوجه تلك الأسلحة للغربيين بحجة الانتقام للمسلمين، وأي مفارقة أكبر من هذه؟!