يقول الدكتور شوقي ضيق رئيس مجمع اللغة العربية بالقاهرة "الفصحى تحي في عصرنا حياة مزدهرة إلى أبعد حدود الازدهار، وهو ازدهار أتاح لها لغة علمية حديثة، وفنونا أدبية متنوعة، وأسلوبا مبسطا ميسرا، مع استلائها على ساحة الصحف ومع محاولاتها الجادة في الاستيلاء على ساحة الإذاعة.
وأنا أومن بأنها ستظل تزداد ازدهارا وانتشارا من يوم إلى يوم حتى تحل نهائيا في الألسنة مكان العامية، لا في ما بقي لها من الفنون الأدبية الشعبية فحسب، بل أيضا في لهجاته التخاطب اليومية".(40)
ويرى الدكتور عبد العزيز التو يجري أن المقارنة بين قول ابن منظور في القرن السابع السابق(41)، وقول الدكتور شوقي ضيف، في القرن الخامس عشر، عن حال اللغة العربية فتح أفقا واسعا للتأمل.
مضيفا أن هذا من شأنه أن يحفز إلى تدبُر المستوى الذي وصلت إليه اللغة العربية في هذا العصر..(42). غير أن استحضارنا لواقع اللغة العربية وتأويلنا له لا يستند إلى المقارنة السابقة فقط.ورأي التويجري فيها بل يستند أيضا إلى قول العلامة محمد عنبر في كتابه المميز(جدلية الحرف العربي). حيث يجزم أن عودة لغة الضاد بسيرتها الأولى ممكنة حين يقسم لهذه اللغة أن تحرر أصولها بكشف الجدل الذي يحكمها، وبيان مسيرته الديالكتكية عن طريق مدارس تقيمها الأمة لهذه الغاية بل أكثر من ذالك سيصبح في مقدور أهلها مجتمعين أن يأتوا بما لم يأت به الأول. لأن هذا الحرف العربي في نظره من أقرب الحروف إلى الأصل الأم لأنه مطابق ومساوق لحركة الوجود في سيرها.(43)
ومحمد عنبر في معالجته هذه يكشف عن نظرية تختلف شكلا ومضمونا عن كل ما كتب سابقا ويكتب الآن عن اللغة العربية, وهي النظرية التي اعتمدناها في بحثنا هذا..
ويرجع عجز اللغة التقليدية ـ كما يعبر عنها الآن ـ إلى أشياء لا تمت بصلة إلى اللغة نفسها وإنما النظر إليها على أنها لغة اصطلاحية تواضع عليها أهلها كوسيلة للتفاهم فيما بينهم دون النظر إلى اللغة ـ أي لغة ـ على أنها في أصل صدورها ليست إلا مجرد أصوات صدرت عن صائت فطرة وسليقة وطبعا كردة فعل على الواقع الذي فعل بهم فصانوا، وهم حينما .صاتوا لم يريدوا إفهام الآخرين بمرادهم(44) على نحو ما تقدم في هذا الكتاب.
اللغة العربية وعلاقتها بالاعلام:
" ومن هنا كانت الأصوات الفطرية القليلة جدا ـ إذا اعتبرت بما آلت إليه اللغة فيما بعد ـ في إعرابها عن ذاتها بذاتها عما هي عليه في ذاتها، إنما هي أصوات يمكن أن تقرأ فيها أسرار هذا الوجود. وواضح أن قراءة كهذه لا بد أن تكون على قدر استيعابنا وليس على قدر ما هي عليه في ذاتها، ومن هنا قام التفاوت في هذا الاستيعاب بين قارئ وآخر.
ولما كانت أٌقدار هذا الاستيعاب في نمو بين كل خطوة حضارية وأخرى، فإن استيعاب ما تعرب به اللغة الفطرية من ذاتها بذاتها عما هي عليه في ذاته يزداد يوما بعد يوم"(45)
وبالرجوع إلى اللغة الهجينة السالفة الذكر وهي لغة الإعلام المعتمدة وبحكم التوسع في وسائل الإعلام وتعدد قنواته ومنابره ووسائطه، ونظرا إلى التأثير العميق والبالغ الذي يمارسه إلى الإعلام في اللغة، وفي الحياة والمجتمع بصورة عامة، فإن العلاقة بين اللغة العربية والإعلام أضحت تشكل ظاهرة لغوية جديرة بالتأمل.
وهي ذات مظهرين اثنين:
_ أولهما: أن اللغة العربية انتشرت وتوسع نطاق امتدادها وإشعاعها إلى أبعد المدى، بحيث يمكن القول إن العربية لم تعرف هذا الانتشار والنبوغ في أي مرحلة من التاريخ.. وهذا مظهر إيجابي باعتبار أن مكانة اللغة العربية قد تعززت كما لم يسبق من قبل، وأن الإقبال عليها زاد بدرجات فائقة وأنها أصبحت لغة عالمية بالمعنى الواسع للكلمة.
_ ثانيها: ويتمثل في شيوع الخطأ في اللغة، وفشوا اللحن على ألسنة الناطقين بها، والتداول الواسع للأقسية والتراكيب والصيغ والأساليب التي لا تمت بصلة إلى الفصحى، والتي تفرض نفسها على الحياة الثقافية والأدبية والإعلامية، فيقتدي بها وينسج على منوالها، على حساب الفصحى التي تتوارى وتنعزل إلا في حالات استثنائية.
وبذالك تصبح اللغة الهجينة هي القاعدة ، واللغة الفصحى هي الاستثناء. وهذا مظهر سلبي للظاهرة"(46)
وإذا قمنا بالتكيف اللغوي ـ على غرار التكييف القانوني ـ لهذه الظاهرة، لا نعدو الحق إذا قلنا إن اللغة العربية تعاني في هذه المرحلة مما أسماه التويجرى (التلوث) الذي يلحق أقدح الأضرار بالبيئة اللغوية ، ويفسد الفكر، ويشيع ضروبا من الاضطراب والإرباك والقلق في العقول, علاوة على ما يسببه هذا الوضع اللغوي غير المستقر ، من فساد في الحياة العقلية للأمة, تنتقل عدواه إلى فساد في معظم المجالات، فتختلط المعاني والدلالات والمفاهيم والرموز في لغة الحوار بين الطبقات المثقفة، وبين قيادات المجتمع ، فيؤدي ذالك إلى الغموض والالتباس والتداخل في مدلولات الكلمات، مما ينتج عنه حالة من (الفوضى اللغوية) التي إن عمت وانتشرت، أفضت إلى فوضى عارمة في الحياة الفكرية والثقافية، وإلى ما هو أعظم خطرا من ذالك كله. (47)
إن هذا التشخيص للعلاقة بين اللغة والإعلام يمكننا من أن نقف على حقيقة الحالة الراهنة للغة العربية، وهي حالة خطيرة بكل المقاييس في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية وما دام التشخيص السابق وصف هذه المرحلة ب:(التلوث) فإننا نتوقع معالجة الخلل وتطهير البيئة اللغوية من هذا التلوث، وإفساح المجال أماما تنمية لغوية يعاد فيها الاعتبار إلى الفصحى، وتستقيم فيها حال اللغة، بحيث تقوم العلاقة بينها وبين الإعلام على أساس سليم، فيتبادلان التأثير في اعتدال وفي حدود معقولة ، فلا يطغى طرف على آخر، بحيث تبقى اللغة محتفظة بشخصيتها، ويظل الإعلام يؤدي وظيفته في التنوير والتثقيف والترفيه النظيف، فيتكامل الطرفان وينسجمان، فتصبح اللغة في خدمة الإعلام، ويصبح الإعلام داعما لمركز اللغة.
فمتى يتحقق هذا التكامل الذي هو أساسا لتنمية لغوية يعاد فيها الاعتبار إلى الفصحى؟!
يقول التويجري إنه ممكن في المدى القريب فلقد تحقق اليوم ما أطلق عليه اسم
(التضخم اللغوي)، أو (التوسع اللغوي) الذي نتج عن اتساع رقعة الإعلام وتأثيره في المجتمعات، وذالك لانتشار اللغة العربية بوضعها الحالي، على نطاق واسع، وهو حسب رأيه ما يخدم أحد أغراض التنمية اللغوية بالمعنى الشامل للتنمية المعتمد في الخطاب المعاصر.
والتضخم الذي ذكره التويجري ليس هو التضخم المعروف عندنا في الاقتصاد والذي هو خطر على الاقتصاد ، فهذا التضخم اللغوي إيجابي لأنه توسيع لاستخدام اللغة، وإغناء لمضامينها ومعانيها، وتلك غاية سامية من الغايات التي تهدف إليها التنمية اللغوية. وانطلاقا من هذا المصطلح فإنه من المعلوم أن لأي تنمية من حيث هي, سواء كانت اقتصادية, أم اجتماعية, أم ثقافية، قواعد, وضوابط, ومعايير, وأهداف مرسومة.
ولما كانت التنمية اللغوية تندرج في هذا السياق, فلن يتحقق الغرض منها ما لم تتوافر لها الشروط الموضوعية، وهي الشروط التي إن انتفى منها شرط واحد، فقدت التنمية اللغوية الهدف المتوخى منها حسب تعبير التو يجري، وتنقسم إلى ثلاثة شروط:
أولا: أن تلتزم اللغة القواعد والأبنية والتراكيب والمقاييس المعتمدة والتي بها تكتسب الصحة والسلامة، في غير ما تزمت، أو تقعر أو انغلاق، مع مراعاة المرونة والتكيف مع المستجدات التعبيرية، فلا تسف، ولكنها تحافظ على طبيعتها، وأصالتها ونضارتها.
ثانيا: أن تفي اللغة بحاجات المجتمع، وأن ترتقي إلى المستويات الرفيعة لشتى ألوان التعيير، بحيث تكون لغة متطورة، مسايرة لعصرها، مندمجة في محيطها معبرة عن ثقافة المجتمع ونهضته وتطوره، مواكبة لأحواله، مترجمة لأشواقه وآماله.
ثالثا: أن يحتفظ بمساحات معقولة بين لغة الخطاب اليومي عبر وسائل الإعلام جميعا، وبين لغة الفكر والأدب والإبداع في مجالاتها، بحيث يكون هناك دائما المثل الأعلى في استعمال اللغة، يتطلع إليه المحدثون والكتاب على اختلاف طبقاتهم، ويسعون إلى الاقتداء به ويجتهدون للارتفاع إليه، فإذا عدم هذا المثل الراقي حل محله مثل أدنى وأحط درجة، لا يربي ملكة ولا يصقل موهبة ولا يحافظ على اللغة، إن لم يسيء إليها ويفسدها.
والشرط الثالث هو من الأهمية بمكان، لأن انتفاء المثل الأعلى في اللغة يؤدي إلى هبوط حاد في مستوى التعبير الشفاهي والكتابي على السواء، ويتسبب في شيوع اللهجات العامية التي تنازع الفصحى السيادة على الفكر واللسان، لدرجة أنها تصبح مثلا يحتذي به. وتلك هي الخطورة التي تهدد شخصية اللغة العربية في الصميم.
وهذه هي النتيجة التي يخشى اللغويون العرب من الوصول إليها، لأنها تمثل خطرا حقيقيا على الفصحى، وعلى ما تمثله من قيم ثقافية رفيعة، هي من الخصوصيات الحضارية للأمة العربية والإسلامية.
وهذه الشروط الثلاثة تتمثل في الفصحى المعاصرة (48) ويري الدكتور شوقي ضيف:
أن هذه الفصحى المعاصرة هي خلاصة التطور الذي عرفته اللغة العربية في هذا العصر، وهي اللغة (الوسطى) التي هي أعلى مستوى وأرفع مقاما من (اللغة السيارة).
فهي لغة عربية تحافظ على خصائصها ومميزاتها وتراكيبها وصيغها، ولكنها لغة عربية معاصرة، بكل ما في المعاصرة من دلالات, ولذالك كانت الفصحى المعاصرة تعيش مرحلة خصبة من جميع الوجوه، إذ وسعت مضامين شتى من العلوم والآداب، ونفذت إلى أسلوب ميسر مبسط ، من شأنه أن يساعدها على انتشارها في جميع الألسنة، وقد ظفرت بفنون كانت خاصة بالعامية. ولكننا نعرف أن الفصحى المعاصرة استولت منذ القرن الماضي على أكبر ساحة لغوية شعبية في هذا العصر. (50).
اللغة الفصحى المعاصرة:.....يتواصل