5. خطوة عاثرة في "طريق" العودة إلى الحكم المدني
بدون مقدمات أو إشعار مسبق، أو حوار مع القوى السياسية المعارضة، أو دراسة جدية للوضع وللخطة السياسية المزمعة (العودة إلى نظام الحكم المدني) من طرف اللجنة العسكرية الحاكمة، أعلن الرئيس محمد خونه ولد هيدالة يوم 11 /12/ 1980
أنه سيتم تشكيل حكومة مدنية برئاسة وزير أول يتمتع بصلاحيات واسعة مهمتها إعداد دستور جديد للبلاد وإجراء انتخابات ديمقراطية. وقد عين السيد سيد أحمد ولد ابنيجاره والي نواذيبو وأحد القادة المدنيين (أو العقل المدبر) لانقلاب العاشر يوليو 1978 رئيسا لتلك الحكومة.
ويبرر الرئيس محمد خونه ولد هيداله تلك الخطوة السياسية المفاجئة من عهده بأنه قام على ضوء الطموحات التي لديهم بمراجعة الأوضاع العامة للبلد فظهر له أن الجبهة الداخلية قد تحسنت بتجاوز البلد نذر التشرذم والفرقة التي كانت تهدد اللحمة الوطنية، وأن الحرب قد توقفت، وأن التقويم الاقتصادي آتى قسطا لا بأس به مما كان ينتظر منه؛ وبالتالي فإن هذه الوضعية هي أفضل ظرف لخروج العسكر من السلطة. وأنه طرح الفكرة على زملائه وأقنعهم بها رغم معارضة بعضهم لها، وقال لهم: إن علينا "أن نغادر السلطة قبل أن نغرق فيها" (من القصر إلى الأسر، ص 131). كما يبرر اختياره للسيد سيد أحمد ولد ابنيجاره رئيسا لتلك الحكومة بكونه يعرف "أنه أحد رجالات العاشر من يوليو الأوائل والأوصياء الاستحقاقيين على مشروعه" رغم أنه لا يعرفه شخصيا (نفس المصدر، ص 132).
ولكن مجرد إلقاء نظرة عابرة على واقع البلاد يومئذ يوحي بأن الأسباب الحقيقية لتشكيل حكومة ولد ابنيجاره تختلف اختلافا جوهريا عن تلك المعلنة؛ إذ يبدو أن الحكومة المدنية في واقع الأمر كانت محاولة ارتجالية أوحي بها للخروج من الأزمة السياسية الخانقة والعزلة التي يعيشها النظام داخليا وخارجيا، ومحاولة لم يكتب لها التوفيق لإجهاض الارتدادات المحدقة التي يصعب التكهن بأبعادها على سياسات الانهزام والاستسلام للعدو التي ينتهجها القابضون على زمام اللجنة العسكرية للإنقاذ. لقد أراد المخططون لتلك الخطوة إرباك المشهد السياسي ومغالطة الشعب والمعارضة وإلهاءهم بحكومة مدنية صورية وانتخابات مزيفة ظاهرها فيه الديمقراطية وباطنها تحكم فريق الرئيس العسكري في الأوضاع تحت توجيه وحماية بوليزاريو وحلفائها. وقد اختير لقيادة المشروع أحد قادة العاشر يوليو في نسخته الأصلية كـ"مؤتمن" على استمرار روح الانقلاب والحكم العسكري، وجسرا لاسترجاع اللحمة بين مختلف أطياف العاشر من يوليو المتناحرة، وخاصة جناح رجال الأعمال والأعماق. ولم تكن "الصلاحيات الواسعة" الموعودة في واقعها سوى وهم فجر من الخلافات أكثر مما سوّى.
وقد قدم والي نواذيبو المعين لقيادة الحكومة المدنية فورا إلى نواكشوط، وبدأ مشاوراته من الغد في مبنى وزارة الخارجية القريب من القصر الرئاسي وأخذ الوزراء يتوافدون عليه. كانت الأمور يومها بسيطة والمجال بين الرئاسة ووزارة الخارجية عاريا وسالكا. ولما بلغني الخبر، توجهت صباح ذلك اليوم الماطر إلى وزارة الخارجية لتتبع ما يجري، واتخذت مقعدي في مكتب السيد بنِّ ولد محمدن ولد سيد ابراهيم الموظف بتلك الوزارة. وكان مكتبه يشرف على المدخل. وبينما كان الوزراء يتقاطرون على المكتب الذي اتخذه رئيس الوزراء مقرا له ويخرجون بوجوه مستبشرة أو مغبرة تعبر عما أعد لهم من تثبيت أو عزل وتثير تعليقاتنا الغافلة.. دخل عليه دركيان قادمان من الرئاسة وأسرا إليه أمرا جعله يقطع مشاوراته ويتوجه صحبتهما إلى الرئاسة. وما إن أخذوا ينزلون سلم وزارة الخارجية حتى عثر رئيس الوزراء فتداركه الرجلان بصعوبة، وكان يرتدي فوق بدلته برنسا مغاربيا طويلا تشبها بالرئيس الجزائري بومدين. فقلت في نفسي: "لن ينجح أمر أوله عثرة"! وعدت من حيث أتيت.
وبالفعل، لم تعمر الحكومة المدنية إلا قليلا. نحو ثلاثة أشهر، فأقيلت بعيد محاولة انقلاب 16 مارس دون أن يرى الدستور الموعود النور؛ وتم التخلي عن المشروع المدني برمته. وقد اتهمها الرئيس هيدالة بأنها انشغلت عن إنجاز مهمتها الانتقالية بمحاولة البقاء في السلطة إلى ما لا نهاية.
أما رئيسها فيقول متحدثا عن العاشر من يوليو وعن الحكومة المدنية: "أما الهدف الأخير - وهو الديمقراطية- فأعترف لكم أننا فشلنا فيه رغم أننا بدأنا في البداية بعض الخطوات التجريبية؛ حيث وضعنا مشروع دستور جديد وكنا بصدد الاستفتاء عليه، وبعده ننظم انتخابات عامة، في إطار من التعددية الحزبية والسياسية ينص عليها الدستور، وكان هذا يتم بالتنسيق مع اللجنة العسكرية وأصحاب الرأي في البلد، وفجأة حدثت المحاولة الانقلابية الدامية يوم 16 مارس 1981، وكانت هزة كبيرة جعلت العسكريين يسترجعون السلطة التنفيذية من الحكومة المدنية ويتشبثون بالحكم، وضاعت فرصة الأمل الديمقراطي الذي كنا ننسج خيوطه بحكمة ودون استفزاز للجيش، ليبقى هذا الأخير يتصارع على الحكم في دوامة منالانقلابات والانقلابات المضادة لم تقد إلى تحقيق الاستقرار والتنمية في البلاد مهما كانت الظروف والمبررات.
وهكذا توقفت الإرهاصات الأولى للمسار الديمقراطي الذي كان من ضمن أهدافنا المعلنة عشية العاشر من يوليو.أمسك الجيش نهائيا بالسلطة واسترجع هيدالة الحكم بصلاحيات كاملة وعين معاوية ولد الطايع وزيرا أول، ولكن بدون المهام التنفيذية الواسعة التي كانت ممنوحة لرئيس الوزراء في الحكومة المدنية السابقة".
ومما تجدر ملاحظته هنا، كون الحكومة المدنية فشلت في تحقيق أي هدف من أهداف إنشائها الحقيقية؛ فضلا عن هدفها الكبير المعلن. فهي لم تستطع مثلا إعادة لحمة وتوحيد مختلف أجنحة العاشر من يوليو المتصارعة، ولم تنجح في تفادي ضربة 16 مارس؛ بل ربما كانت سببا في تعجيلها. ولم ينخدع بها السواد الأعظم من الناس الذين ظلوا يعارضون انقلاب العاشر من يوليو والحكم العسكري وسلطة الرئيس هيداله. وقد كانت محلا للتندر والسخرية التي يمثل هذا الگاف نموذجا منها:
ذا الحكم ال لاه بتگياع يشكل واعليه أُوَكَّلْ
ول ابنيجار جَابُ گاع أصلا مولانَ مُشَــكَّلْ.