تعد الزراعة محرك التنمية الأساسي في البلدان النامية ،لما تلعبه من ادوار اقتصادية واجتماعية وبيئية، لذلك سعت معظم دول العالم النامي إلي إعطائها المكانة التي تستحق ،ولم تشذ بلادنا عن هذه القاعدة.
سخرت الدولة الموريتانية إمكانات معتبرة لتطوير قطاع الزراعة علي مدي عقود ،
دون أن ينعكس ذلك علي مستوي الإنتاج ،وظل إسهامها في الناتج الوطني الداخلي ضعيفا ،وتراجع دورها الاجتماعي كثيرا.
أهم أسباب إخفاقات السياسات العمومية:
إعطاء الأولوية للأهداف السياسية
لم يستطع القائمون علي الزراعة، الفصل ما بين التخطيط المبني علي أسس علمية والمنطلق من حاجيات حقيقية للقطاع، وبين الشعارات السياسية ، والتي لا تخدم البلد بأي شكل من الأشكال، فعلي سبيل المثال تم حمل شعار إدخال زراعة القمح باعتباره انجازا وطنيا ورصدت لذلك المشروع إمكانات معتبرة ذهبت هدرا.
يحز في نفسي كيف يمكن لطاقم فني متمرس وواع ومسؤول أن ينظر لخطأ فادح يتنافي مع أصول مهنته ،فعملية زراعة القمح اتسمت باختلالات خطيرة:
- إن إدخال أي محصول جديد يتطلب المرور بمراحل معروفة ،تبدأ باختبارات عديدة كاختيار الأصناف والتأقلم داخل مراكز البحوث، ثم تمر باختبارات في حقول المزارعين فيما يشبه مراحل اعتماد دواء جديد، الأمر الذي لم يأخذ بعين الاعتبار وظهر ذلك جليا في كم الأصناف المعتمدة علي عجل.
- تم اخذ قرار زراعة القمح دون التفكير في مكان زراعته فالاستصلاحات الموجودة صممت لزراعة الأرز وهو محصول يتحمل الغدق ويمكنه إكمال دورته في الماء عكس القمح خصوصا أن تسوية المزارع الرديئة بالكاد يتحملها الأرز فما بالك بالقمح.
إن محاولة إدخال زراعة القمح لم تسبب فقط هدر المال العام بل تجاوزته إلي زعزعة ثقة المزارع بالإرشاد والمتدنية أصلا.
من الأمثلة علي العبثية محاولة إدخال زراعة البطاطا في بحيرة كنكوصة وفي مناطق داخلية أخري، حيث تم استيراد البذار (درنات البطاطا) من أوربا في الطائرة ،ومع ذلك وبتوفر كافة أشكال الدعم ،كانت النتائج مخيبة، فما تم حصاده كان أقل من كمية البذار المستوردة، ناهيك عن رداءة الإنتاج،كما أن توقف المشروع يعني هجرة تلك الزراعة فالمزارع غير قادر علي الحصول علي البذار،كل تلك الأخطاء نتجت بسبب تقاعس الطاقم الفني عن توجيه بوصلة السياسيين الحالمين بطبعهم والساعين لانجازات سريعة وملموسة.
ضعف أداء منظومة البحث والتكوين والإرشاد
من أبجديات الزراعة، أن لا تنمية حقيقية دون تطوير مثلث البحث والتكوين والإرشاد ،فالبحث الزراعي، يعد حجر الزاوية ،باعتباره المسؤول عن إيجاد الحلول لمشاكل المزارعين ،وابتكار التقنيات الجديدة، واعتماد الأصناف الملائمة، إلا أن هذا المرفق الهام سقط سهوا من اهتمامات صناع القرار.
لا يعد التكوين الزراعي أحسن حالا فنحن البلد الوحيد في شبه المنطقة الذي لا يملك إستراتجية وطنية للتكوين الزراعي والريفي
Stratégie nationale de la formation agricole et rurale(SNFAR)
لقد أظهرت دراسة للمركز الموريتاني لتحليل الدراسات Cemap ضعف وهشاشة منظومة التكوين وعجزها عن الاستجابة لمشاكل المزارعين خاصة.
لم يستطع الإرشاد ممثلا بالشركة الوطنية للتنمية الريفية ومفتشيات الزراعة ،تقديم النصح والتأطير لجمهور متعطش للابتكارات والحلول، حيث أن الإرشاد يعمل بوسائل بدائية لا تصلح إلا للقرون الوسطي، فغياب المعينات السمعية البصرية والنشرات الحديثة خير دليل.
تشتت الجهود وتعارضها
يعد تعارض الجهود من أهم أسباب فشل السياسات العمومية في المجال الزراعي ،ويعود ذلك في الأساس لضعف التنسيق أو غيابه، فعلي سبيل المثال هنالك تعاونية زراعية دعمها أحد المشاريع التنموية الوطنية من اجل غرس أشجار مثمرة في قطعتها الزراعية، وبعد انتهاء الدعم تقدمت منظمة غير حكومية دولية قدمت دعما آخر بغرض إدخال زراعة شجرة المورينغا لتزال غراس الأشجار المثمرة علي عجل وتغرس المورينغا مكانها،وبعد انتهاء التمويل تقدم مشروع آخر يهتم بزراعة الخضار وبقية القصة معروفة فلا حاجة لسردها.
عدم كفاءة منظومة الإحصاء الزراعي
إن عدم كفاءة الإحصاء الزراعي، تعد عائقا كبيرا أمام صناع القرار ،حيث أن غياب البيانات الكافية أو عدم مصداقيتها أصلا، يؤدي في الغالب إلي إخفاق السياسات الزراعية.
أتيحت لي سنة 2001 فرصة مرافقة مهندسين زراعيين متخرجين جدد ،إلي مزرعة خاصة في منطقة الضفة ،للاطلاع علي ظروف إنتاج وتسير المزارع الخاصة،وبعد أن شرحت الهدف من الزيارة، طلب مني مسير المزرعة أن انفرد به جانبا ليفرك يديه ويسألني :انبيظها و اللا أنكحلها،فقلت له باستغراب ماذا تعني فقال أنت مانك من الوزارة.!
لا يملك صناع القرار اليوم للأسف بيانات صادقة عن حجم الإنتاج، ولا المساحات المزروعة، و تكتفي الإدارات المعنية بلعبة الأرقام المعهودة، والتي تضلل صناع القرار قبل الرأي العام.
عاني قطاع الزراعة من اختلالات هيكلية سببت ترنحه علي مدي عقود، حيث فشلت السياسات المتعاقبة فشلا ذريعا ،لذلك يتطلب اليوم دفعة إصلاح حقيقية وجادة مما سيشكل قطيعة مع الممارسات السلبية التي أضرت به كثيرا.