شتاءُ المُزارعين .. خيباتُ أملٍ في النظام وتحدياتٌ تـُهدد الزراعة / سيدي الطيب ولد المجتبى

أنين المزارعين ، وأسرابٌ من الطيور تمارس كامل حريتها في الحقول والمزارع ،،
أكوامٌ مُكدسة من بقايا حصادٍ تقاعست الحكومة عن دعمه وحمايته في بادئ الأمر ، ورفضت شراءه وتسويقه في طور الحصاد ..
ذلكم هو المشهد البائس المُخيم على مناطق الضفة وشمامه والذي بات ينذر بكارثة زراعية ماحقة، 

بدأت بعضُ ملامحها تلوح في الأفق، وتجسد البعض منها على أرض الواقع ..
ترى من المستفيد من وأد العملية الزراعية في وطن لم يؤمن غذاءه بعد ..؟
***
تُـقدِّر الاتحادية الوطنية للزراعة عددَ العاملين في القطاع الزراعي بـ 35  ألف عامل ، يتوزعون في مختلف المناحي والمناطق ، بعضهم ينضوي في تكتلات كبيرة وآخرون في تعاونيات أهلية وقروية .
حيث تُوفر الزراعة عوضاً عن ذلك فرصاً تجارية أخرى للعديد من المواطنين في مجال بيع الأعلاف والتربية الحيوانية التي تمثل عنصراً فاعلا لا يقل أهمية عن عناصر الثروة الوطنية الأخرى .
***
في أواخر التسعينيات شهد القطاع الزراعي طفرة نوعية في مجال الفساد وحركة الاستثمارات الأجنبية ورؤوس الأموال والقروض المقدمة من بنوك ومؤسسات مالية غربية لدعم الزراعة في البلاد ، لكن مليارات الدولارات تلك لم توجه لوجهتها الصحيحة ولم تتم إدارتها بطريقة شفافة ، بل شابتها زبونية في التسيير وفساد في الإنفاق ، ولم تستفد منها سوى ثلة من رجال الأعمال المتنفذين في نظام ولد الطايع حينها ، إضافة لبعض الوجهاء التقليديين والمنتخبين الذين استفادوا من نهب تلك الأموال في تلك الحقبة المشؤومة من تاريخنا السياسي .
امتدت يدُ النهب وطالت كل التمويلات والميزانيات التي يتم رصدها بشكل سنوي للزراعة  دون أي رقابة رسمية أو متابعة إدارية أو قضائية لعمليات الفساد والمفسدين الذين يتحركون بضوء أخضر من الأنظمة الحاكمة ..
***
من الحسنات القليلة للرئيس السابق سيدي ولد الشيخ عبد الله إبان فترته الوجيزة أنه استجاب لشروط الممولين الدوليين الذين اشترطوا عليه دعم القطاع الزارعي مقابل منحه قروضاً مالية معتبرة ..
وبالفعل قام الرجل بخطوات يمكن اعتبارها الأكثر جدية من أجل إنعاش قطاعٍ ميت في الأصل ، ولم يكن له أي دور تنموي ..
بدأت الاستراتيجية الزراعية الجديدة باستصلاح آلاف الهكتارات بشكل مجاني بشراكة مع البنك الدولي عبر الشركة الوطنية للاستصلاح الزراعي والأشغال المعروفة بـ "سنات" .
بالإضافة لذلك تم تشجيع المزارعين بأن تم تعويض كل مزارع مبلغا مالياً قدره 57 ألف أوقية عن كل هكتار تتم زراعته ، وهو ما أدى بالفعل إلى إقبال هائل على الزراعة ابتداء من تلك الفترة .
كما تحملت الدولة مسؤولية منح الأسمدة مجاناً للتعاونيات ، وتخفيضها بنسبة خمسين في المائة لصالح الخصوصيين ، وهو ما تم التراجع عنه مؤخراً بقرار من الجنرال محمد ولد عبد عزيز .
المفارقة الأكبر هي أن الحاصدات التابعة لشركة "سنات" كانت تقطع الهكتار الواحد بـ 22 ألف أوقية ، واليوم صارت تقطعه بـ 100  ألف أوقية وهو ما أثار حفيظة المزارعين على كامل الضفة وشمامه .
***
المكتب الجهوي للاتحادية الوطنية للزراعة في روصو كان قد بدأ بعض التحركات الخجولة كردِ فعلٍ على ما تعيشه الزراعة اليوم من تردٍ في التسويق وتراجع في المكتسبات ..
ولحد الساعة لا يزال مكتب الاتحادية مكتفياً بالبيانات الاعلامية والرسائل الادارية لكشف الواقع السيئ الذي يترنح فيه القطاع المُشرف على التلف و النهاية ، في حين ترتفع أصوات قوية من داخل المزارعين منددة بالواقع ومهددة بخطوات تصعيدية قد تصل لحد إعلان سنة زراعية بيضاء ، خاصة وأنهم الآن على أبواب حملة زراعية وشيكة ، في حين لا تزال المحاصيل الانتاجية للحملة الزراعية الماضية مكدسةً في مخازن التقشير ولم يتم تسويقها بعد !
***
التحديات الكارثية التي تضافرت في الآونة الأخيرة تكمن في التراجع المباغت للدولة عن جميع وسائل الدعم التي كانت موجهة للزراعة والمزارعين ، حيث كان التخلي عن الحماية الجوية من الطيور أبرز وأبشع تلك الكوارث التي عصفت بأحلام المزارعين وأفقدتهم ما يزيد على نسبة 30  في المائة من المحاصيل التي اجتاحتها أسراب الطيور التي تعجز الوسائل اللوجستية المحدودة للمزارعين عن مواجهتها والتصدي لها بكل حزم ، بالرغم من أن وزيرة الزراعة في آخر زيارة لها قبل شهر تعهدت للمزارعين بأن تبعث لهم بطائرة خاصة للحماية الجوية في غضون 48 ساعة ، وهو ما لم يتم تنفيذه لحد الآن .
إجراء آخر ينضاف لقائمة الاجراءات التعسفية في حق المزارعين ، وهو خروج صندوق الايداع والقرض عن مهمته التنموية حيث أفقد السندات العقارية قيمتها وكذلك المرهونات بما في ذلك ضمانات الدولة على التعاونيات وحملة الشهادات التي لم تعد لها أية جدوائية ، مما انعكس سلباً على قطاع الزراعة بشكل عكسي ، حيث تراجع الانتاج ليصل بالكاد إلى 2 طنا للهكتار في الحملة الزراعية المنتهية .
ومع كل هذه الضربات الموجعة والمؤثرة التي أنهكت القوى ، وشلت القطاع ، كانت المفاجأة الكبيرة التي يخبئها النظام للمزارعين هي تخلي الدولة نهائياً عن مسؤولية التسويق التي تمثل الرهان الوحيد والمكسب الأخير لأصحاب التعاونيات والخصوصيين وحملة الشهادات .
***
المندوبية الجهوية للزراعة في روصو يصفها المزارعون بأقذع الأوصاف معتبرين إياها وكراً للزبونية والمحسوبية والرشوة والفساد ، ويتهمونها بعدم المسؤولية ، والتجاهل للدور المحوري المنوط بها ، من خلال توفير آلية حقيقية لدعم الزراعة وتوفير الأسمدة ، والحماية من الآفات ، وبناء شراكة فاعلة مع المزارعين الموجودين على الأرض ، بدل أن تكون مجرد مكتب خدمات يأتمر بأوامر ثلة من رجال الأعمال المحسوبين على النظام ..
فأغلب المزارعين في روصو باتوا ينسجون علاقاتهم مع سائقي سيارات الحماية التابعة للمندوبية ، وحينما يحتاجون إليها في حالة استعجالية يتصلون بأحد السائقين ويبرمون معه صفقة خاصة على انفراد لتقوم إحدى السيارات بمهمة مطاردة الطيور خاصة في المناطق القريبة التي لا تحتاج لحماية جوية .
***
ما لفت انتباهي خلال زيارتي الميدانية للمزارعين هو المنعرج الخطير والنفق المُظلم الذي تتجه إليه سكة هذا القطاع الحساس ، الذي يضرب عليه النظام الحاكم بحصار محكم لا يسلم من بأسه وأضراره المادية إلا أفراد قلائل تربطهم صلات اجتماعية ضيقة بأسرة الجنرال ولد عبد العزيز ..
وإلا فلماذا يتم اعتقال أزيد من عشرين شابا من حملة الشهادات بتهمة أنهم لم يسددوا مستحقات صندوق الإيداع والقرض "CDD" في حين تتراجع الدولة عن تسويق المحصول الزراعي الذي بموجبه سيتأتى لهؤلاء أن يسددوا ديونهم ..؟!
والنكتة المضحكة في الأمر أن مجموع ديون جميع حملة الشهادات لا يبلغ 10  في المائة من الديون التي تم إعفاءها عن واحد من رجال الأعمال المنحدرين من المحيط الضيق لرأس النظام ..؟!!
لذا لا أملك إلا أن أقول لكل مزارع يؤمن بأرضه وقضيته أن يقف مدافعاً بكل استماتة ، من أجل استرجاع المكتسبات وإرغام النظام على تحقيق المطالب بالنضال السلمي والعصيان المدني ..
وإلا فستتحول الثروة الزراعية إلا قطاع احتكاري على فئة قليلة لا تقبل فيه بأي تنافسية أو شراكة ، كما هو الحال مع قطاع المعادن الذي بات حكرا على شركات متعددة الجنسيات لا تأبه بمصالح وطن ولا مواطن .!

8. يناير 2016 - 10:45

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا