فضلت هذا العنوان على عنوان آخر ربما يكون أقرب تفسير لما يسود اليوم أجواء القطاع الزراعي المروي، وما يفرزه من بيانات ومقالات وهو " الزراعي والسياسي في بيان نائب رئيس مكتب الزراعة.. " حيث دأبنا على المطالبة باتباع " السياسة الزراعية " البناءة، و التحذير من " الزراعة السياسية "
الهدامة، سواء كان ذلك من طرف الدولة والحكومة، أو من طرف الخصوم السياسيين، انطلاقا من تجربتنا وقناعتنا أنه كلما دخلت السياسة من الباب، قفزت الحقيقة والموضوعية والمعايير من النافذة، خاصة في المجالات الفنية البحة..
اخترنا هذا العنوان رغم صلاحية ومناسبة العنوان الآخر، لأن بين أيدينا بيان أو نداء " استغاثة " يطالب البرلمانيين بالتدخل لإنقاذ القطاع الزراعي، موقع من طرف نائب رئيس المكتب الجهوي للزارعة بولاية اترارزة دون علم، أحرى موافقة، رئيس هذا المكتب الموجود وقت تحرير البيان في عاصمة الولاية، وهو المخول بتوقيع كل ما يصدر عن هذا المكتب، أو تخويل نائبه توقيع ما يصدر عنه، وليس ذلك فقط، بل وبتمرير ما يصدر عن المكتب عبر السلم الإداري المعهود، حسب النظم الداخلية للمكتب، ومن ثم ترفع السلطات الإدارية الجهوية ذلك إلى الجهات المعنية، وليس من صلاحية ولا مهام المكتب الجهوي للزراعة إصدار البيانات على هذه الطريقة وبهذا الأسلوب.
أنا طبعا لست مزارعا، ولا رئيسا للمكتب الجهوي ولا نائبا له ولا عضوا بمكتبه، ولست كذلك سياسيا، وألعن السياسة كلما وجدتني أمام وقت أو موقف من أوقات أو مواقف استجابة الدعاء.. لكنني مهندس زراعي أشعر بالاعتزاز أنني كنت من طلائع المهندسين الزراعيين الذين واكبوا إرهاصات وبداية الزراعة المروية بداية تسعينات القرن الماضي، وإلى غاية بداية الألفية، وأن كل التقنيات الزراعية المستخدمة في زراعة الأرز اليوم بدأت على يدي أنا وبقية زملائي المهندسين، بدء بإدخال تقنية استخدام المبيدات العشبية، وإعداد دليل العمليات الزراعية ( Le calendrier agricole)، وإكثار البذور ومراقبة جودتها، وانتهاء بإدخال أصناف الأرز الجيدة المزروعة اليوم مثل أصناف ( ساحل 108، ساحل 201، ساحل 202 ) ومتابعتها في حقول المزارعين إلى أن اقتنعوا بأفضليتها، وكذا إدخال استخدام الأسمدة الفوسفاتية والبوتاسية المفيدة لرفع كمية وجودة الإنتاج.. حيث كنا نقطع المسافات يوميا سيرا على الأقدام بين الحقول، ونعبر روافد النهر وثيابنا على رؤوسنا من أجل إيصال تلك التقنيات للمزارعين. ورغم ذلك لا أعتبر نفسي الأولى بالحديث عن الزراعة، وإن كان عندي ما أقوله فيها ولكن بلسان فني بحت..
وقبل الخوض في ما يتم تداوله اليوم عن الوضعية التي يمر بها القطاع المروي، أريد أن أنبه إلى أن الزارعة، والمروية منها خاصة، نشاط جديد على ثقافتنا، ويكفينا كدليل على ذلك اهتمام ونجاح مواطنينا في كافة مناطق البلاد في ممارسة التجارة وتربية المواشي حتى في داخل المدن.. لماذا؟ لأن التجارة وتربية المواشي ثقافة راسخة لدى المجتمع، أما النشاط الزراعي، بنمطه الحديث، فلا زال الوقت مبكر جدا على ترسخه لدينا كثقافة، ويتطلب ذلك عقودا إضافية، بما ينطوي عليه ذلك من نجاحات وإخفاقات، ورسم سياسات واستبدالها بأخرى، إلى أن تصبح الثقافة مستوعِبة للسياسات.. وأنبه أيضا إلى أن النشاط الزراعي ينفرد عن غيره من النشاطات بأنه نشاط التقلبات والهزات.. وذلك لارتباطه الوثيق بالظروف المناخية التي لا قبل للإنسان بالتحكم فيها.
نعود لعنواننا لمعرفة الصحيح والمغلوط في النداء الذي وجهه نائب رئيس المكتب الجهوي للزراعة للبرلمانيين قبل أيام، ملفتين الانتباه إلى الحاجة لقدر من الصبر، لأن كل النقاط الواردة في البيان النداء تحتاج إلى تفصيل وموقعوه لم يفصلوها، فقد أرجع مُصدر وموقع النداء انهيار القطاع الزراعي للعوامل التالية:
1ـ خصخصة آلات الحرث والحصاد، وارتفاع سعر حصاد الهكتار من 24.000 إلى 100.000 أوقية: صحيح أن الدولة تنازلت عن هذه الآلات للمزارعين، لكن ذلك كان بطلب منهم، وبعد أن تبين أن ملكية وتسيير الدولة للآلات الزراعية لم يكن سوى تكرارا لتجربة سابقة فاشلة، أيام شركة الخدمات الزراعية المعروفة ب ( GSA )، والعقلية السائدة بأن كل ما تعود ملكيته للدولة هو غنيمة بلا معركة، لا أحد يصونه أو يشفق عليه، ويتساوى في ذلك مسيروه ومستخدموه! وطبيعي أن يرتفع سعر حصاد الهكتار بعد خصخصة الحاصدات، لأن مبلغ 24.000 أوقية كثمن لحصاد الهكتار إنما كان كذلك لأنه سعر مدعوم، ولن يبقى على حالة بعد الخصخصة، لكن غير صحيح أن سعر حصاد الهكتار ارتفع إلى 100.000 أوقية وإنما لا زال يتراوح بين 50.000 و 60.000 أوقية، كما لا تزال الدولة على قرارها بإعفاء الحاصدات والجرارات الجديدة من الرسوم الجمركية تشجيعا للمستثمرين على استيرادها.
2ـ التراجع عن سياسة تسويق الأرز: وهذا صحيح، وقد تكلمنا عنه في وقته وتوقعنا أنه سيحدث هزة في القطاع، لأن المزارع تعود على بيع إنتاجه للدولة بواسطة مصانع تحويل الأرز ( مصانع التقشير ) التي كان لها من الوسائل ما تشتري وتمرر به للدولة الرديء من الأرز بسعر الأرز الجيد، وذلك بمساعدة لجان الرقابة التابعة لوزارتي الزراعة والتجارة للأسف! واليوم بعد تخلي الدولة عن هذا المسار المفلس، لن يشتري المقشرون من الأرز إلا ما هم متأكدون من جودته. لكن لن يعدم المزارع طريقة لتسويق أرزه الجيد، أما الأرز الرديء فلا خصوصي سيشتريه، والدولة اكتوت بناره ومخازنها تغص به بفعل ذلك التمالؤ! وعندما توقعنا أن هذا القرار سيحدث تلك الهزة، قلنا أيضا إنه لا أمل في دفع المزارعين لمزيد من الجهود للتحسين من نوعية الأرز، في الوقت الذي تتوفر لهم وسيلة لتمرير أرزهم الرديء..! كما توقعنا كذلك أن يفرز هذا القرار المزارع الحقيقي الجاد من المزارع الانتهازي، ولعل ذلك هو ما يفسر هذا التذمر، تماما مثلما تذمر مستثمرون في قطاع الأدوية من تنظيمه وخرجوه، وكما تذمر مستثمرون في التعليم الخصوصي من محاولة تنظيمه أيضا وغادروه..
3ـ التخلي عن دعم المدخلات الزراعية: وهذا غير صحيح، لأن الحملة المنصرمة تسلم خلالها المزارعون المدخلات الزراعية بنفس الدعم الذي كانت الدولة تدعم به هذه المدخلات، وحتى كتابة هذا الكلام لم تعلن الدولة التخلي عن تلك السياسة، رغم ما تتكبده جراءها من خسارة متمثلة في ما يعرفه المزارعون جيدا، ويمارسه بعضهم كأخذ كميات زائدة عن حاجتهم من المدخلات المدعومة وبيعها في السوق، بل وتخصص بعضهم في استلام كميات كبيرة منها باسم تعاونيات لا وجود لها وبيعها في السوق أو تهريبها خارج الحدود..!! وآخر كلام للوزير الأول أمام البرلمان، أكد فيه أن الدولة ماضية في سياسة دعم المدخلات.
4ـ غياب البذور الجيدة: وهذا صحيح، وقد تكلمنا عنه مرارا وقلنا إن كل المكتسبات التي حققتها زراعة الأرز مؤخرا، معرضة للانتكاسة ما لم يتم إنشاء هيئة لإكثار البذور ورقابتها تحت إشراف فني دقيق، ولا نعرف حقيقة ما الذي لا زال يحول دون ذلك، فالقضية ليست عملية تخصيب يورانيوم ولا إرسال سفينة للفضاء.. وإنما هي اتخاذ إجراءات وتدابير لإعادة تفعيل الهيئات المختصة التي كانت قائمة على إكثار ورقابة جودة البذور. ولا يفاجئنا أن سنوات من الاستخدام المتتالي للبذور غير المعتمدة قد بدأ يفعل فعله، و بالتأكيد أن تدني مردودية الهكتار لهذا الموسم كان لفوضوية استخدام البذور مساهمة فيه!
5ـ غياب آلية للتمويل ذات مصداقية: ولا أعرف ماذا يقصده البيان هنا بالمصداقية، وهل هي التراخي في تحصيل الأموال المدفوعة للمزارعين كقروض تراكمت إلى أن تجاوزت 15 مليار أوقية إبان تولي مؤسسة القرض الزراعي سابقا لعملية تمويل المزارعين، جزء قليل من تلك المليارات على ظهور المزارعين، لكن جله " في بطونهم " إذ لم يتم استثماره في الزراعة وإنما في تمويل أنشطة أخرى كالتجارة والصيد والتنمية الحيوانية والعقارات..!؟
أرجح أن يكون ذلك هو المقصود هنا بعدم المصداقية، لأن ما يأخذه بعض المزارعون اليوم على صندوق الإيداع والتنمية هو الصرامة في استرداد ديونه على المزارعين، فنحن بطبيعتنا نتكلم كثيرا عن الإصلاح والفساد، لكننا نعادي الصرامة ونراها دوما استهدافا لنا، ولا نطرح السؤال: كيف يمكن لمؤسسة قرض الاستمرار في نشاطها دون استرجاع قروضها؟! مع أنني أعارض التعامل " المتعجرف " الذي يتبعه صندوق الإيداع والتنموية اليوم في تحصيل ديونه، وأتمنى عليه البحث عن آلية أخرى لتحصيل تلك الديون. وإن كنت لا أحسده على المهمة الموكلة إليه أمام مراوغة وحيل بعض المزارعين، فقد يكون المزارع خسر فعلا محصوله لظروف خارجة عن إرادته، لكن الأمر أحيانا قد لا يكون كذلك.. وتاريخ مواطنينا مع البنوك ومؤسسات القرض معروف، ونظرتهم لها هي الأخرى معروفة، ولا زالت سائدة!
6ـ غياب وجود تأمين زراعي: التأمين الزراعي هو مشروع لدى الدولة أعلنت عنه منذ فترة، ولا أعرف إلى أين وصل، وإن كنت أتوقع أن إتمام دراسة وتحديد إجراءات إعداد نظمه وآليات عمله هي ما يؤخره.
7ـ رداءة محصول الأرز لهذه السنة إلى حدود 1ـ2 طن للهكتار: وهذا صحيح، لكن يمكننا أن نرد تدني المحصول إلى كل العوامل ما عدا عامل تخلي الدولة عن سياسة التسويق، كما أن تدني الإنتاج في أحد المواسم الزراعية لا يعني بالضرورة انهيار القطاع، فقط يتطلب الأمر تحديد أسباب ذلك التدني بموضوعية وبروح فنية وتحاشي تلك الأسباب ما أمكن في المواسم المقبلة، وسبق وأن أشرنا إلى أن القطاع الزراعي هو قطاع التذبذب والتقلبات..
8ـ تغييب المزارع عن السياسات في المجال الزراعي: والحقيقة أن المزارعين هم بالآلاف، وموزعون على الولايات النهرية الأربع، وليس من العملي جمعهم في قاعة واحدة في كل مرة يتم فيها تدارس شأن زراعي.. وكما هو معمول به في كل القطاعات الإنتاجية والخدمية، بل والأدبية والثقافية والرياضية، أن لكل نشاط من هذه النشاطات نقاباته واتحاداته التي يتم التعامل معه عبرها، وللمزارعين اتحاديتهم التي تضم غالبيتهم كبارا وصغارا ومتوسطين، ولها مكاتب جهوية في كافة عواصم الولايات النهرية، وهي ممثلهم في التعامل مع الحكومة وفي المشاورات ورسم وتنفيذ السياسات. يأخذ البعض على هذه الاتحادية دعمها للنظام ومساندتها لسياساته؟ لا أعتقد أنه من الموضوعية تحليل بعض الأطراف السياسية لنفسها السيطرة على النقابات والاتحادات لاستخدامها في أجنداتها، وتحريم ذلك على الدولة، واتحادية الزراعة ومكتبها الجهوي هما خليط من كافة التوجهات السياسية، بالإضافة إلى من لا يؤمنون بالسياسة ويلعنونها مثلي.. ولا أدل على ذلك من أن نائب رئيس المكتب الجهوي للزراعة، الموقع على البيان الموجه للبرلمانيين، ممثل لأكبر أحزاب المعارضة في روصو..
9 ـ غياب مكافحة الآفات: وهذا صحيح، فإلى حد الآن لا زالت الوزارة جامدة على النص الذي يعتبر أن للأرز آفة واحدة هي العصافير، وصحيح أن العصافير هي إحدى آفات محاصيل الحبوب عموما، ولكن لا زالت استراتيجية مكافحتها متذبذبة الفعالية، وتقتصر على عمليات تدخل متأخرة غالبا وغير كافية، تتمثل في سيارات رش توفدها الوزارة بعد أن تتعالى أصوات التضرر من أسراب العصافير، وليس ذلك فقط، بل إن المزارعين عودوا سائقي هذه السيارات على الرشوة والزبونية، فلكي ترش لك سيارة الرش حقلك اليوم، فلا بد لك من أن " تَرُش " سائقها.. مع أنه أرسل أصلا لرش الحقول مجانا!
وتغفل الوزارة، أو تجهل ربما، أن كل محصول هو عائل لأنواع من الحشرات ومسببات الأمراض التي تصيبه، تغيب بغيابه أو في بداية إدخاله، وتتكاثر بالتوسع في زراعته، وبالنسبة للأرز في بلادنا فقد كانت الأمراض والحشرات التي تصيبه قليلة، لكن بالتوسع في زراعته بدأت بعض الأمراض والحشرات في الظهور في حقوله، ومن هذه الحشرات مثلا نوع من أنواع حشرة البقة الخضراء ( La Punaise verte ) التي هي من الحشرات الماصة بالغة الخطورة، والتي تختبئ نهارا في الأفرع السفلية للنبات وتهاجم المحصول ليلا، وقد ظهرت هذه الحشرة بشكل كبير في حقول الأرز خلال موسم الخريف الأخير، ولأن البحث والإرشاد الزراعيين لا زالا ضعيفين جدا، فبالتأكيد أن أضرار هذه الحشرة كان لها دور في تدني المحصول لهذا الموسم.
10 ـ عدم ملاءمة الأسمدة للمعايير الفنية: الصح والغلط في هذا الجانب تحدده التحاليل المخبرية لا التحاليل السياسية.. فهو بالضبط مثل الميكرفون الذي نسلمه في الشارع لمواطن بسيط وأحيانا يكون أميا، فيقول لنا إن الأدوية مزورة، بينما لا يستطيع طبيب ولا دكتور صيدلاني أن يضع حبة أو مسحوق دواء في كفة ويقول إنه مزور، حتى لو كان مزورا فعلا، فما يمكنه من تأكيد ذلك هو تحليل الدواء لمعرفة مكوناته ونسبها، ونفس الشيء، لا يمكن القول إن الأسمدة غير مطابقة للمعايير الفنية إلا بأخذ عينات منها وتحليلها في مختبر ذي مصداقية.
فالدواء قد يكون مزورا، لكنه أيضا قد يكون أصليا فيخالف المريض إرشادات استعماله، أو يكون قد صُرف له على إثر تشخيص خاطئ فلم يفده.. ومثله الأسمدة قد تكون هي الأخرى مزورة، لكنها أيضا قد تكون أصلية فيستخدمها المزارع بإهمال، والكثير من مزارعينا مهملون، فيضيفها على المحصول في ماء كثير، أو مع نقص في الري، أو يضيفها قبل أو بعد الموعد المناسب لإضافتها، أو يستخدمها بكميات قليلة، أو يخزنها في ظروف غير ملائمة فتفقد صلاحيتها، أو يستخدمها في حقل موبوء بالحشائس المنافسة، أو لا يكون حاضرا لإضافتها، وهي الأكثر حدوثا، فيسرقها و يبيعها عماله.. فأي قائل بغش الأدوية أو الأسمدة لا يرفق قوله بكشف من مختبر تحاليل معتمد قوله مردود. وقد سبق وأن طرحت قضية غش الأسمدة فأرسلت عينات منها لمختبر أجنبي فجاءت مطابقة لمعايير الأسمدة المعروفة، وحبذا لو وُجد مختبر محلي لحسم هذا الجدل.
تلك هي العوامل العشر، بصحيحها ومغلوطها، التي أرجع إليها نائب رئيس المكتب الجهوي للزراعة ما أسماه انهيار القطاع الزراعي، وهي عوامل جلها كان قائما طوال السنوات الأخيرة، ومع ذلك كان القطاع يتحسن كقطاع لا زال يعاني بعض المصاعب الفنية والمادية والمناخية، لكن الثقافية والاجتماعية والعقلياتية أيضا.. إلا أن الشجرة التي ظلت تخفي غابة هذه العوامل كلها، هي ذلك المورد الذي كان بعض " المزارعين " يحصل عليه بدون عناء ولا تعب ولا عمل، من خلال سياسة شراء الدولة للإنتاج من الأرز، والتي لولا توقف الدولة عنها لما سمعنا هذا الهرج!
وخلاصة القول هي أن الدولة رسمت استراتيجية من خمس سنوات ( 2010 ـ 2015 ) وحددت أهدافا لاستصلاح وزارعة 50 ألف هكتار لإنتاج 80% من احتياجات البلد من الأرز، وقد تحقق هذا الهدف، بل وزادت المساحة المزروعة عن تلك المرسومة في الاستراتيجية ب7 آلاف هكتار، وزادت نسبة التغطية قليلا عن ال 80% من حاجيات الاستهلاك، صحيح أن جزء من تلك النسبة كانت نوعيته رديئة وهذا طبيعي مع كل بداية، وتفاديا لذلك ترسم الدولة الآن استراتيجية ثانية من خمس سنوات أيضا ( 2015 ـ 2020 ) خطوطها العريضة هي المحافظة على المكتسبات المتحققة، والتركيز على تنافسية الأرز من حيث السعر والجودة.
وأستبعد أن يغيب عن بال معدي هذه الاستراتيجية، من مسؤولين وفنيين ومزارعين، أن تنافسية الأرز من حيث السعر تعتمد بداهة على خفض تكاليف إنتاجه، وفي هذا الإطار يأتي إبقاء الدولة على دعم أسعار المدخلات من بذور وأسمدة ومبيدات، وتنتظر كهربة الحقول لخفض تكاليف الري، لتبقى معضلة الحصاد التي تتطلب التفكير في طريقة لعقلنتها وتسييرها، لأن المشكلة قد لا تكون في توفير الحاصدات وإنما في تسييرها وصيانتها، وسيكون من المفيد هنا التوسع في توفير آلات درس الأرز الخفيفة ( Les Batteuses ) ليمكن ذلك من حصد بعض المساحات يدويا، ومن ثم درس أو فصل الحبوب عن السنابل بهذه الآلات، وذلك لتخفيف الضغط على آلات الحصاد والدرس الكبيرة والمعقدة ميكانيكيا.
أما تنافسية الأرز من حيث النوعية فتمر حتما من خلال التحسين المستمر للعمليات الزراعية، ولا يمكن ذلك التحسين قبل البدء في تفعيل شعبة إنتاج ومراقبة جودة البذور، وتنشيط آليات البحث والإرشاد، ولا أعني أولائك الفنيين القابعين في المكاتب الإدارية ينتظرون " أتمودير أو التوزير.. " وإنما يتطلب الأمر فرقا فنية مكونة وجاهزة على الميدان تقوم بمواكبة الموسم الزراعي من بدايته، تُرشد على التقنيات الزراعية، وترصد ظهور الآفات من عصافير وحشرات وغيرها وتقوم بمكافحتها أولا بأول.
ولأن القرض الزراعي هو أحد محاور العملية فلا بد له من استحداث آلية جديدة يكون من خلالها حاضرا في الميدان، يعرف من هو المزارع الحقيقي المرتبط بأرضه الجاد في عمله من " المزارع الموسمي " المتصيد للقروض، المضارب في أسعار المدخلات المدعومة، ويعرف أيضا من هو المزارع الذي خسر فعلا وكيف ولماذا خسر، لأنه بدون ذلك لن يأتيه مزارع ويقر له بأنه ربح..!
لا ينبغي لبعض المزارعين كذلك أن يهددوا الدولة بسنة زراعية بيضاء، باعتبارهم شركاء في عملية إنتاجية لها مقوماتها، وليسوا عمالا في شركة أو مصنع، ولا أساتذة أو معلمون يهددون بسنة دراسية بيضاء.. فالدولة وأغلب الفاعلين في القطاع يأخذون في الحسبان أن الانتقال من خطة زراعية إلى أخرى، قد يكون من متطلباته أو نتائجه تراجع مؤقت للمساحات المزروعة، وأغلب المزارعين يتوقعون ويتفهمون أن الظروف لن تكون ملائمة لاستئناف سير المواسم الزراعية المنتظمة، إلا ابتداء من الموسم الخريفي المقبل طبقا لمتطلبات الاستراتيجية الخماسية الجديدة، وليست هذه المرة الأولى التي تتراجع فيها المساحات المزروعة، فقد كانت سنة 2010 كلها سنة زراعية بيضاء تقريبا، عندما أعرضت الدولة عن مواكبة القطاع المروي إلى حين وضع استراتيجتها الخماسية الأولى، والانطلاقة بالقطاع من جديد على أساسها.
و لن أفوت فرصة أتحدث فيها عن الزراعة، دون أن أنبه إلى أن الاستمرار في زراعة الأرز ما بعد تحقيق الاكتفاء الذاتي لا ينبغي أن يكون هدفا، وذلك لارتفاع تكاليف زراعة الأرز في بيئتنا، والمنافسة الكبيرة التي يواجهها من قبل الأرز الأجنبي المنتج بتقنيات ونظم زراعية واجتماعية لا زلنا بعيدين جدا عن القدرة على التحكم فيها ومنافستها، فبتحقيقنا للاكتفاء الذاتي من هذا المحصول، والمحافظة على الرتم الذي مكن من ذلك، نكون قد حققنا مكسبا استراتيجيا كبيرا، لكن ما بعد الاكتفاء الذاتي من الأرز ينبغي، بل تقتض الظروف والحاجات، أن يكون التوجه هو تكثيف زراعة الأعلاف للحد من تأثير تقلبات السنوات المطرية وندرة الأعلاف، وفي نفس الوقت مواكبة سياسة التحسين الوراثي للسلالات التي لا يمكنها أن تنجح إلا بالتغذية الجيدة للحيوانات. بالإضافة طبعا إلى التوسع في زراعة القمح، ولكن بمقاربة ونظرة جديدة تنتشل هذه التجربة الطموحة مما أوقعها فيه القيمون عليها من تلاعب وأخطاء ليست هي أحسن ما تبدأ به التجارب عادة..!
وأختم بمقولة المصريين الذين كانوا هم من أوائل الشعوب التي مارست الزراعة بحضارة النيل، حيث نجد الإبن الذي ورث الأرض الزراعية عن أبيه، وتوارثها آباءه وأجداده إلى الجد العشرين، حيث يقولون إنه لا بد للمزارع من " صبر أيوب " لكي يتحمل مشاق ومتاعب الزراعة، و" مال قارون " لكي يستطيع تغطية تكليفها وتحمل خسائرها غير المتوقعة، و" عمر نوح " لكي يعيش إلى أن يجد غلتها.. أقول ذلك لكي يفهم الرأي العام وكل شركاء العملية أن الزراعة ليست نزهة، ولا بابا للثراء السريع، ولا تحسب نتائجها من عقد أو عقدين من الزمن.. وإنما هي عملية شاقة ومكلفة ومعقدة، وإن كانت التكنولوجيا قد ساهمت في التخفيف من مشاقها مع ما يصاحب التكنولوجيا هي الأخرى من تعقيدات وتحديات.. لكن الزراعة مع ذلك مهنة الشرفاء والكسب الحلال والتلذذ برائحة العرق والطين.. ولا خوف على شعب اتجه إليها بسواعده واستغل مقدراتها، ولا خير في حكومة لم تعي أهمية ذلك وتواكبه.