لا تضيع قطعة الماس !؟ / محمد الأمين ولد الفاضل

يحكى فيما يحكى أن أعمى كان يسكن وحيدا في صحراء جرداء قاحلة، وأنه سمع ذات مرة هاتفا يبشره بكنز عظيم مدفون في تلك الصحراء القاحلة. أخذ الأعمى منذ سماع تلك البشرى يحفر في الأرض بحماس بحثا عن الكنز المنشود. ولقد عثر في بداية بحثه على فأس ظل يستخدمه في عملية التنقيب عن الكنز.

مرت أيام وشهور، بل وسنوات، والأعمى لا شغل له إلا الحفر في باطن الأرض بحثا عن الكنز، ولم يتوقف الأعمى عن البحث إلا بعد أن سقط ذات يوم ميتا في احدي تلك الحفر التي حفرها بحثا عن الكنز. هنا انتهت قصة الأعمى مع الكنز، وهنا ستبدأ قصتنا نحن مع كنوزنا، وبالمناسبة فإن قصة هذا الأعمى تتكرر مع أغلب الناس، ودون أن يشعر أي واحد منهم بذلك.
إن الفأس الذي وجده الأعمى في بداية بحثه عن الكنز المدفون في الأرض، كان هو الكنز  الذي بشر به، فالفأس كان فأسا من الذهب الخالص، وكان مرصعا باللؤلؤ والماس.
المؤسف في الأمر أن الأعمى لم يكن  قادرا علي رؤية بريق الذهب يتلألأ من الفأس، ولم يجد من يخبره بذلك، فكانت المأساة، وكان أن مات الأعمى وهو يبحث عن كنز بين يديه!! دُفن الأعمى مع كنزه ودون أن يعلم بذلك، وهكذا هو حال أكثر الناس، إنهم يدفنون مع كنوزهم ودون أن يعلموا بذلك، وذلك على الرغم من أنهم كانوا قد ضيعوا أعمارهم وهم يبحثون عن تلك الكنوز التي دفنت معهم.
سُئِلَ أحد الحكماء عن أفضل مكان يمكن أن يُعثر فيه علي المواهب فأجاب الحكيم: بأن المقابر هي أفضل مكان يمكن أن نبحث فيه عن المواهب!!
ولقد صدق هذا الحكيم، ففي كل يوم تدفن فؤوس ذهبية مع أصحابها، وترحل مواهب وقدرات وإمكانيات هائلة دون أن يستغلها أصحابها، ودون أن يستفيد منها هذا المجتمع المحتاج لها، وهذه واحدة من المصائب العظيمة التي لا تجد من يتحدث عنها، بل وقد لا تجد من يعتبر بأنها أصلا مصيبة.
وحتى لا تدفن معنا فؤوسنا الذهبية كما حدث مع الأعمى، فدعونا نتحدث قليلا عن الموهبة، وعن بعض الخطوات التي قد تساعد في اكتشافها وفي استغلالها بالطريقة الأمثل.
ما هي الموهبة؟
الموهبة لغة، وكما في المعاجم، من فعل وُهِب أي أعطي الشيء مجانا. أما اصطلاحا فلها تعريفات كثيرة ومتشعبة ليس هذا المقام مناسبا لبسطها، ومع ذلك فيمكن أن نعتبرها مَلَكَة أو قريحة في مجال ما يهبها الله تعالى لعباده.
فالمواهب هي قدرات خاصة ذات أصل تكويني، لا يرتبط بذكاء الفرد، فقد يكون موهوبا من يحسب عند الناس أنه من المتخلفين عقليا، وهناك أربع خطوات هامة لاكتشاف واستغلال الموهبة.
الخطوة الأولى: ثق أن لديك موهبة
بداية علينا أن نتيقن جميعا بأن لكل واحد منا مجالا ما يمكن أن يتفوق فيه، بل ويبدع فيه ويتميز، فالله الذي جعل إعمار الأرض من المهام الأساسية للإنسان الخليفة في الأرض، قد أودع في كل واحد منا إمكانيات وقدرات هائلة تمكنه من انجاز تلك المهمة الموكلة إليه في مجال من مجالاتها. فهل يليق بمسلم أن يعتقد بأن الإنسان الخليفة في الأرض لم يُمنح من القدرات والإمكانيات ما يكفي لأداء مهمة كان الله قد أوكلها إلى ذلك الإنسان الخليفة؟
الخطوة الثانية: نقب عن موهبتك
على كل واحد منا ـ وبعد أن يكون قد آمن بأن لديه موهبة ـ أن يبحث عن تلك الموهبة المودعة لديه، وذلك من أجل أن يهتدي إلى المجال الذي يمكن له أن يتفوق فيه ويتميز، فيستغل فيه طاقته وقدراته، بدلا من تضييعهما في أمور ومجالات أخرى.
تذكر دائما بأنك لن تستطيع أن تبدع إلا في مجال موهبتك. صحيح أنك قد تنجح بالجد والمثابرة في مجالات لست موهوبا فيها، ولكنك لن تبدع في تلك المجالات، ولن تتميز فيها. إنك لن تبدع ولن تتميز عن بقية الناجحين إلا إذا استثمرت قدراتك وإمكانياتك في مجال موهبتك.
إن التنقيب عن الموهبة ليس بالمهمة السهلة، بل إنه صعب وشاق، فالموهبة  تشبه قطعة الماس التي قد تبدو في البداية وكأنها قطعة فحم بلا قيمة، ولكن قطعة الفحم هذه قد تتحول إلى قطعة ماس رائعة بعد أن يتم إخضاعها لكثير من القطع والصقل والتشكيل.
إن قطعة الماس الرائعة يمكن أن ندوسها بأقدامنا معتقدين بأنها مجرد قطعة فحم عادية.
إننا ندوس يوميا على الكثير من قطع الماس بأقدامنا، ولكي نتوقف عن هذا السلوك الغريب، دعونا نأخذ عبرة من قصة مزارع في جنوب إفريقيا.
إنها قصة مزارع كانت له مزرعة توفر له مع كل حصاد محصولا لا بأس به. قرر هذا المزارع أن يبيع مزرعته، وذلك بعد أن تقدم به العمر، وبعد أن سمع بقصص كثيرة عن فقراء تغير حالهم، وأصبحوا بين عشية وضحاها من الأثرياء، وذلك بسبب أنهم كانوا قد تفرغوا للتنقيب عن الماس وبيعه. لما سمع المزارع بتلك القصص باع حقله، وأخذ المال وذهب إلى الأمكنة التي كان ينقب فيها عن الماس في تلك الفترة، وبعد فترة من البحث غير الموفق، اضطر صاحبنا إلى أن يعود إلى قريته خائبا ومحبطا.
الغريب في الأمر أن المزارع الذي اشترى الحقل وجد فيه قطعة ماس، ثم ثانية، فثالثة، وذلك من قبل أن يكتشف بأنه قد اشترى منجما من الماس بثمن بخس.
عندما علم المزارع العجوز بأنه كان يملك منجما من الماس في مزرعته، وبأنه باع ذلك المنجم بثمن بخس ليساعده في تكاليف رحلته للتنقيب عن ماس لن يعثر عليه، عندما علم بكل ذلك، لم يكن منه إلا أن انتحر.
لقد كان الماس قريبا جدا من المزارع العجوز، كان تحت قدميه، وكان يتمشى عليه يوميا، ولكن مشكلة هذا المزارع العجوز هي أنه بحث عن الماس بعيدا وبعيدا جدا، ولم ببحث عنه في مكان قريب، أي داخل مزرعته.
شيءٌ مثل هذا يحدث مع الكثير من الموهوبين الذين يبحثون عن ماس بعيد، وعن نجاح في مجال بعيد من مواهبهم. إن النجاح قريب جدا منا، وإن المجال الذي يمكننا أن نبدع فيه (الموهبة) أكثر قربا مما نتخيل، إنه بداخلنا، وما علينا إلا أن نبحث عنه بدلا من الذهاب بعيدا كما حدث مع المزارع العجوز.
إننا في هذا الزمن لم نعد نخصص وقتا للخلوة مع أنفسنا، ولا نخصص وقتا للبحث عن الموهبة المودعة بداخلنا (الماسة)، ولكننا بدلا من ذلك نقضي أوقاتا طويلة من أعمارنا للبحث عن ماس بعيد قد لا نجده إطلاقا، فمشكلتنا في هذا العصر هي أننا أصبحنا نعرف شيئا كثيرا عن العالم من حولنا، ولكننا لا نعرف إلا القليل، بل والقليل جدا، عن أنفسنا.
الخطوة الثالثة: هوايتك قد تقودك لاكتشاف موهبتك     
كثيرا ما تختلط  الموهبة مع الهواية عند غالبية الناس، ويمكن لنا التفريق بين الموهبة والهواية على النحو التالي: الموهبة هي عطاء يولد مع الإنسان، أما الهواية فهي من الهوى، أي الميل إلى شيء معين، وهي مكتسبة، فلكي تكون شاعرا فلا بد لك من موهبة في الشعر، ولا يكفي لقول الشعر أن تكون من هواته. إن الخلط بين الموهبة والهواية قد يقع بسبب ارتباط الموهبة بالهواية عند الكثير من الناس، ولذلك فإن تحديد هواياتنا وتتبعها قد يساعدنا كثيرا في اكتشاف مواهبنا.
ومن قبل الانتقال إلى الخطوة الرابعة، فإنه على كل واحد منا أن يعلم بأنه هو الشخص الوحيد في هذا العالم الذي يمكنه أن ينزع اللثام عن موهبته، وهذا لا يعني ـ بأي حال من الأحوال ـ بأنه لا أحد يمكنه أن يساعدنا في إماطة اللثام عن مواهبنا، فالأسرة يمكن أن تُساعد في اكتشاف الموهبة، والمدرسة قد تُساعد، والمجتمع قد يُساعد، والمناخ  الثقافي العام في البلد قد يُساعد، ولكن المؤسف أن كل هذه العناصر التي تم تعدادها، والتي قد تساعدنا في اكتشاف مواهبنا، قد تتحول في كثير من الأحيان، وخاصة في البلدان المتخلفة، إلى "عصابة من الأشرار" لقتل المواهب في وقت مبكر.
تقول بعض الدراسات بأن 90% من الأطفال الذين لا تتجاوز أعمارهم خمس سنوات هم من المبدعين، وأن 2% من هؤلاء هم الذين يبلغون سن الخامسة والأربعين دون أن يخرجوا من خانة المبدعين. فمن ذا الذي قتل روح الإبداع في نفوس هذه النسبة الهامة من المجتمع؟ إنها "عصابة الأشرار" نفسها، ويمكن أن نضيف لهذه العصابة الضحية نفسه، فالمبدع قد يشارك هذه العصابة، وقد يعينها ـ بطريقة أو بأخرى ـ في خنق وقتل الإبداع لديه. يقول عالم الكيمياء  المصري أحمد زويل، والحاصل على جائزة نوبل، ما مضمونه: إن الغرب ليسوا عباقرة والعرب ليسوا أغبياء، وإنما  الفرق بين العرب والغرب هو أنهم في الغرب يدعمون الفاشل حتى ينجح، وأما العرب فإنهم يحاربون الناجح حتى يفشل!!
الخطوة الرابعة: الوقت لم يتأخر
تذكر دائما بأن الوقت لم يتأخر على اكتشاف الموهبة، وإذا كان من المهم جدا أن ننقب عن الموهبة في مرحلة مبكرة من أعمارنا، إلا أن ذلك لا يعني بأنه ليس من واجبنا أن نبحث عنها في مراحل متقدمة من العمر، إذا ما  كنا قد ضيعنا الفرصة للبحث عنها في مرحلة مبكرة من أعمارنا.
إن الشاعر النابغة الذبياني، والذي يعد من أشهر شعراء الجاهلية، لم يكتشف موهبته إلا بعد أن أصبح في سن الأربعين، وربما يكون هذا الشاعر قد ضيع عقودا من عمره  يبحث بعيدا في مجالات أخرى، كالفروسية مثلا، بدلا من البحث عن موهبة الشعر المودعة لديه، ولكن وعلى الرغم من تأخر هذا الشاعر في اكتشاف موهبته، إلا أنه ورغم ذلك فقد تمكن بفضل موهبته من أن يتربع على قمة النجاح، ويكفي أن نعلم بأن هذا الشاعر كانت تضرب له قبة من جلد أحمر بسوق عكاظ، فيقصده الشعراء ويعرضون عليه  أشعارهم، وأن النعمان بن المنذر ملك الحيرة كان قد منحه مكانة خاصة لم يمنحها لشاعر من قبله.
لنأخذ مثالا آخر، ولكن هذه المرة من تراثنا المحلي.
تقول الرواية الشعبية بأن "ولد أنقكو" كان قد تقدم به العمر، وهو لا يزال يضرب به المثل في الجهل، ولكن وعلى الرغم من ذلك فقد اشتهر هذا الرجل كثيرا، وذلك بعد أن بدأ يتعلم، وبعد أن بدأ في اكتشاف موهبته وفي استغلالها.
إن اكتشاف الموهبة سيكون بلا فائدة، إذا لم يصاحبه جهد كبير في صقلها، وفي استغلالها على أحسن وجه، وعلينا أن نتذكر دائما بأن قطعة الماس تحتاج دائما إلى الكثير من الصقل والتشكيل والقطع، وإلا فإنها ستبقى دائما مجرد قطعة من الفحم.
إضاءة : هناك جواهر وماسات في أعماق البحار والمحيطات لو قُدِّرَ لها أن تخرج من ظلمات تلك البحار والمحيطات لخطفت الأبصار ولبهرت العقول.
تنبيه : عزيزي القارئ إذا شعرتَ بعد قراءة هذا المقال بأنك قد أصبحت أكثر اقتناعا بأن لديك موهبة ما، وبأن الوقت لم يتأخر على اكتشافها واستغلالها، فهذا يعني بأن المقال قد حقق الغاية من كتابته، وإذا لم يتولد لديك ذلك الشعور فهذا يعني بأنه لم تكن هناك أي أهمية لكتابة هذا المقال، وهذا يعني أيضا بأنه عليَّ أن أكتفي بهذا المقال، وأن أعود إلى الكتابة في الشأن العام، بدلا من مواصلة نشر هذه المقالات المتخصصة في تنمية وتطوير الذات، والتي كنتُ قد وعدتُ بكتابتها ونشرها في وقت سابق. عزيزي القارئ يهمني كثيرا رأيك. 

13. يناير 2016 - 18:55

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا