اللغة الفصحى المعاصرة:
ويصل المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم د: التو يجري من اجتهاده هذا إلى أن الفصحى من هذا المنظور، هي الأمل في تطور اللغة العربية تطورا سليما، في هذه المرحلة التي تهاجم فيها الهوية الثقافية والخصوصية الحضارية للأمم والشعوب، فهي لغة الإعلام والفكر والثقافة والإدارة الدبلوماسية ، وهي لغة لا تنفصل عن الماضي، ولا تتنكر
للتراث اللغوي، ولكنها لا تجمد عند مرحلة تاريخية من تطور اللغة، وإنما تساير المستجدات في غير ما اندفاع أو علو أو تطرف،لأن التطرف في اللغة هو الانفلات من القواعد، والانقلاب على التراكيب والصيغ البيانية المقطوع بصحتها وسلامتها.
ويري أن هذه الفصحى المعاصرة هي لغة الحاضر والمستقبل، وهي الرد الموضوعي على الأخطار التي تتهدد اللغة العربية، وهي إلى ذالك التطور الطبيعي للفصحى الأصلية التي ضعف استعمالها في المجتمع نتيجة للأسباب والعوامل السالفة الذكر، مبينا أن هذا المصطلح الجديد (الفصحى المعاصرة) تعنى معاني كثيرة, منها ربط الفصحى بالمعاصرة، بما يستلزمه ذالك من الانخراط في العصر، والاندماج في تحولاته، والاستغراق في تياراته، وهو الأمر الذي يعني في المقام الأول الأخذ بالنتائج التي انتهى إليها علم اللغة الحديث، والاستفادة من ابتكارات العلوم (51) المرتبطة بفقه اللغة وعلم الأصوات وهذا ما يجعلها تلتزم بقواعد العلوم الحديث.
إن المعرفة التي بحوزتنا، هي الوسيط الذي ندرك من خلاله الوجود المادي والمعنوي، والواقع التاريخي، والواقع المعيش، وهذا الوسيط يتم تطويره عبر الخبرة البشرية، وعبر الكشوف والبحوث المتجددة.
إننا نعيش في عالم متغير تجتاز فيه الإنسانية منعطفا جادا، ومثلها تدرجت في عصور الرعي, والزراعة,والصناعة, ها هي ذا تدخل الآن في عصر المعلومات، الذي تتنامى فيه العمالة الفكرية على حساب العمالة اليدوية، وتتبدل فيه مقاييس التقدم ومعايير ارتقاء الأمم وتترك خصائصه آثارها العميقة على طرف التفكير، وأنماط العيش وسبل التخاطب وأساليب التربية والتعليم وقواعد السلوك وسائر العلاقات الاجتماعية والسياسية، والاقتصادية المحلية منها والإقليمية والدولية.
وككل التحولات الكبرى في التاريخ سوف نضطرب خلال مراحل تحول القيم والموازين وأنماط السلوك، وسوف يقاوم الإنسان التغيير ويدافع بحكم الاعتياد إلى أن يستقر الجديد وتثبت فعاليته وجدواه.
إن أهم تحول عرفته نهاية القرن العشرين هو الانتقال مما أسماه (توفلر)(52) بالموجبة الحضرية الثانية ,التي بدأت مع نهاية القرن السابع عشر الذي كان مصدر الثروة والنفوذ فيها هو رأس المال والإنتاج الصناعي, إلى الموجة الحضارية الثالثة التي تمثل فيها المعرفة (إعلام ، معلومات ، تقنية رقمية) المصدر الأساسي للقوة والهيمنة.
لقد عجل ظهور مجتمع الإعلام والمعرفة بحدوث تطورات هائلة على صعيد إنتاج وتداول وتخزين ومعالجة المعلومات والاستفادة منها في مدة زمنية قياسية. " إن تزايد نفوذ الإعلام المقروء والمسموع والمرئي(53)
كيف نوظف هذا الانتشار الواسع للغة:
سيشكل عاملا مساعدا لذيوع اللغة العربية وسعة انتشارها ووصولها إلى آفاق بعيدة, تتخطى رقعة الوطن العربي إلى العالم الإسلامي.
وإلى مناطق شتى من العالم، خصوصا وأن الإعلام المرئي يلعب دورا بالغ التأثير في تبليغ الرسالة الإعلامية إلى العالم أجمع".
وبذالك اتسعت الساحة أمام الضاد على نحو لا عهد لها به من قبل. وفي هذا الامتداد للغة العربية تجديد لها، على نحو من الأنحاء، وتبديد الوهم الذي ساد في فترات سابقة، بأن لغة الضاد لم يعد لها مكان في هذا العصر.(54)
لكن هذا الاتساع المطرد والانتشار المستمر للغة العربية لا يخلو من سلبية حيث أن “الرضا بمستوى اللغة والركون إلى وضعها الحالي، يورثان حالة من الاطمئنان والقبول والتسليم بالأمر الواقع، مما يتسبب في العزوف عن تراث اللغة والزهد في رصيدها على النحو الذي قد يؤدي ، إذا ما استمرت الحال على ما هي عليه اليوم، إلى ما يشبه القطيعة مع الثقافة العربية الإسلامية في مصادرها وأصولها "(55)
ولتجاوز هذه السلبية يقترح التويجري ما أسماه (بالمنهج التكاملي) وهو أن تواكب الجهود التي تبذل على مستوى مجامع اللغة العربية في الوطن العربي وعلى مستويات أخرى في أقسام اللغة العربية بالجامعات العربية، التطور الذي تعرفه اللغة بحكم تأثير وسائل الإعلام فيها، وأن يساير هذا العمل الأكاديمي والفني الوضع الحالي للغة العربية، فلا يرتفع عنه، ولا يستهين به ، وإنما يتفهمه، ويستوعبه ، بحيث لا يتم خارج نطاق الواقع، وإنما يكون جزءا من هذا الواقع، يتفاعل معه تفاعلا إيجابيا ينتج عنه ازدهار اللغة العربية وانتشارها، والحفاظ عليها وحمايتها، وتطويرها وتجديدها.
ولهذا المنهج أربع قواعد وهي:
أولا: التعامل مع اللغة على أساس أنها كائن حي قابل للتطور وفق ما يقرره أبناء اللغة، أي أن تطوير اللغة يأتي من إرادة الناطقين بها، ويصدر عنهم، فهم أصحاب المصلحة في هذا التطوير.
ثانيا: إحكام العلاقة بين عملية تطوير اللغة وإصلاحها وتحسينها وتجديدها، وبين المتغيرات التي تعيشها المجتمعات العربية، بحيث تكون عملية التطوير استجابة لتطور المجتمع ونابعة عن واقعه المعيش.
ثالثا: الانفتاح على المستجدات في العالم، خاصة في مجالات العلوم والتقانة والمعلوميات وعلم اللغة الحديث بكل تفريعاته والحقول البحثية المرتبطة به، والسعي إلى الاقتباس والنقل والاستفادة الواسعة من نتائج هذه العلوم جميعا في إغناء اللغة العربية وربطها بحركة الفكر الإنساني.
رابعا: الاهتمام بالجانب القانوني والتشريعي في عملية التطوير، حرصا على ضبط مساره والتحكم في نتائجه، من خلال وضع قوانين تصادق عليها الجهات المختصة في الدولة، لفرض هيبة اللغة وإلزام أفراد المجتمع والهيئات والجماعات باحترامها طبقا للقانون أسوة بما هو عليه الأمر في بعض الدول الغربية.
إن هذا المنهج الذي ندعو إليه، يلائم عصر العولمة الذي نعيشه، وينسجم مع طبيعة التحديات التي تواجه الضاد، ويتناسب والواقع الثقافي في العالم العربي.
كيف نستفيد من لغة الاعلام في عصر العولمة:
وحول الاستفادة من لغة الإعلام في عصر العولمة السالفة (56) الذكر التي تتيح فرصا كثيرة لكل من يرغب في تطوير لغته، حيث تقدم الصحون اللاقطة والإنترنت(57) والبريد الإلكتروني والحاسوب، كل ما يلزم من عمليات الإحصاء والترتب والتخزين والاسترجاع والتصحيح فانه يقترح الخطوات التالية:
أولا: تفعيل المنظومة التربوية تفعيلا معاصرا، وذالك بتطوير الخطاب اللغوي، حتى يلبي كل أنماط الخطاب البسيط العلمي، ويغطي كل أساليب التعبير، ويصاحب هذا بالتجديد في متن اللغة استجابة لملاحقة العصر.
ثانيا: بناء الذخيرة اللغوية، وبنوك المعطيات.
ثالثا: علاج اللغة علاجا آليا، من خلال اعتماد نظام الترجمة الآلية منها وإليها.
رابعا: إدخال التراث اللغوي العربي في أقراص ممغنطة (CD) (58).
ونحن نعد كتيب الدكتور التويجري: (مستقبل اللغة العربية) الذي أخذنا عنه من الكتب الهامة التي تهتم بتطوير اللغة العربية وتطويعها، حتى تكون لغة المستقبل، كما كانت لغة التألق الحضاري في تاريخ الأمة.
كما أنه يبين للباحث الأسباب والعلل التي أدت إلى ضعف اللغة العربية وعدم مسايرتها للركب الحضاري. والحلول اللازمة لذالك مما سيؤدي إلى النهوض باللغة العربية وإقامة الجسور بينها وبين المستقبل.. ويمكننا أن نقول في ضوء هذا كله ، إن العيب في أبناء اللغة وليس في اللغة، وإن التنمية اللغوية مرهونة بالجهد الذي يبذله هؤلاء الأبناء في الواقع وبين الناس.
وإذا تكللت هذه الجهود بالنجاح فإن هذا من شأنه أن يجعل من وتيرة التنمية اللغوية التي ظهرت بوادرها في ما أسماه التو يجري (بالتضخم اللغوي) (59) وإذا تحقق هذا بشكل أو بآخر فإن اللغة في عصر المعلومات وانفجار المعرفة والاتصالات سوف تتجاوز كل أزمانها المزمنة ومشكلاتها التقليدية.
وان اختراق المعلومة لكافة الحدود والسدود والحواجز والقيود، وغزارتها بما يشبه طوفان نوح، تنهمر بها الفضائيات من السماء، وتنبجس بها الشبكات العنكبوتية عيونا من الأرض، وسهولة تخزينها وتصنيفها واسترجاعها، سوف يغير أذواق الناس وأنماط تفكيرهم وأساليب تعاملهم وتحصيلهم وأن تعدد الخيارات أمام الملتقى ووفرتها بين يديه، سوف يكسر احتكارات المعرفة، ويضع الجميع أمام فرص متكافئة يفوز فيه من مكان أحسن عملا. ولسوف تسقط الوصايات الفكرية وممارسات القمع والحجر، وتنفتح القواقع الإيديولوجية والتيارات الفكرية والثقافات ويسود الحوار, ولسوف يعلو شأن اللغة العربية ويشتد تأثيرها ويزداد الاهتمام بها. وسوف تستعيد اللغة دورها المنشود في بناء الإنسان، ولن تكون يومها اللغة العربية فقط, بل إنها سوف تعود سيرتها الأولى لغة إنسانية بين الأمم, بعد أن صمدت في وجه التصحيف والتحريف والإفساد.
سر محافظة اللغة على قوتها واستمرارها:
أما عن محافظتها على قوتها واستمرارها فتأتى من علاقتها بالدين حيث يعتبر من أقوى النظم الاجتماعية التي عرفتها المجتمعات البشرية منذ بدء الخليقة... ولئن اختلف العلماء في تحديداتهم لماهيته.
وتضاربت آراؤهم حول تحديد مصادره.. أو سبب وجوده .. فإنهم لا يختلفون على أنه موجود كظاهرة اجتماعية صاحبت الإنسان في جميع أطواره الثقافية عبر التاريخ.
وان له علاقة تأثير وتأثر بمعظم النظم الاجتماعية السائدة في المجتمع لعلاقته بالإنسان وارتباطه بصميم الواقع الاجتماعي.
علاقة اللغة بالدين:....يتواصل....