بعيد صلاة العصر بلحظات بدأ صعود الركاب إلى داخل الحافلة ؛ بعد أن تم تنظيم متاعهم على ظهرها الذي بدا وكأنه يعادلها لشدة ارتفاعه ، لم يمر صعود الركاب بهدوء وانسيابية بفعل الخلاف و النزاع على المواقع والمقاعد ؛ ولأن السمسار يتعمد التعتيم على المكان المخصص لكل راكب حسب توقيت الحجز ؛
كي لا يخسر بعض الركاب اللذين يرفضون المقاعد الخلفية لضيقها وارتفاع حرارتها الذي يساعد فيه كثيرا عدم تشغيل المكيفات المتفق عليه من طرف سائقي هذه الحافلات الصغيرة والسريعة والخطيرة ؛ ترشيدا للبنزين على حساب راحة الركاب .. ولأن هذه الحافلات خصص لها مصنعوها مقاعد بطاقة استعابية تصل خمسة عشر (15) راكبا فقط من ضمنهم السائق ؛ إلا أن أصحابنا المحبذين للتربح على حساب سلامة المواطن يضيفون إلى هذه المقاعد المحددة إثنتين وأحيانا ثلاثة ، والحالة التي أخذناها مثالا تمت فيها إضافة ثلاثة ركاب على النحو التالي : الممر الأخير بين المقاعد الخلفية زيد بكرسي صغير كي يجلس عليه راكب زائد ، والمقاعد التي تقع أمامها مباشرة زيدت بكرسي آخر يسد الممر المعد لتسهيل انتقال وخروج الركاب ، أما ثالث المقاعد الزائدة فهو قنينة زيت فارغة جعلت عليها وسادة ووضعت إلى جانب الباب مباشرة وأجلس عليها شاب يافع ..!
تزامنا مع غروب الشمس خرجت الحافلة من انواكشوط وصلى ركابها صلاة المغرب عند نقطة التفتيش التي تقع عند مدخل العاصمة ، والغريب في الأمر أنه لا تفتيش ولا تحقيق في الهويات ولا في طبيعة الحمولة ..! ، بعد ذلك واصلت الحافلة كغيرها من الحافلات ووسائل النقل الأخرى السالكة لطريق الأمل سيرها بسرعة تفوق الخيال تجاوزت هذه السرعة مرات عديدة حاجز -160-كلم/ الساعة ؛ التي يستحيل معها التعامل مع الأحداث الطارئة والمفاجئة ؛ دون أن يكترث السائق بحياة هؤلاء المواطنين ، إنما يستأنس بسجارته التي لا يمل إطلاق أعمدة دخانها عليهم مع أن فيهم الشيخ والحامل والرضيع ..! .
واصلت الحافلة سيرها ومرت بمختلف النقاط الأمنية التابعة لمختلف التشكلات العسكرية -الشرطة -تجمع أمن الطرق- الدرك الوطني- ، ولا أحد من هؤلاء سأل مجرد سؤال عن بطاقات التعريف ، أو أمر بعض الركاب الملثمين بإماطة اللثام ..! ؛ مع أن من بين الركاب أجانب وبالإمكان أن يكون من بينهم فار من العدالة ، وبالإمكان أيضا أن يكون من بين المواطنين الملثمين وغير الملثمين السجين السلفي الهارب من السجن ، ولم لا فالتفتيش غائب والرعونة والإهمال سائدان ، قد يقول قائل أن السجين لن تبلغ به السذاجة أن يمر بطريق عليها نقاط أمنية؛ صحيح إن كانت هذه النقاط يمكن أن يقال عنها حقيقة أو مجازا : نقاط أمنية ، أما هذه فهي نقاط بهيمية على الأصح ويمكن أن يستغل المجرمون ذلك .. لقد كان كل اهتمام هذه النقاط منحصر في البحث داخل أوراق السيارات لتبرير {الأعطية} للمتأخرين في دفعها ، إن هذه الرشوة المقدمة من طرف هؤلاء السائقين رغم بساطتها إذ لا تتجاوز غالبا -500- أوقية ؛ تجنبهم التفتيش والمكث عند هذه النقاط {الأمنية} ؛ في مظهر مقيت من مظاهر العار والتصرف المتطرف من طرف بعض موظفي ووكلاء الدولة ؛اللذين لا يدركون أن هذه المخالفات التي يتاجرون بها ، ويفضلون أخذ الرشوة من المخالف بسرية وهم صاغرون ؛ كانت ستتحول إلى فائدة عامة وموقف نبيل إن هي سلكت مسلك القانون وعوقب المخالف وقدمت له وثيقة إثبات ودفع لخزينة الدولة ؛ليعود ذلك على المواطن بالنفع العام ، إذ ستدخل هذه الضريبة في أنشطة عامة وتسد منها رواتب هؤلاء الموظفين اللذين يتحايلون عليها ويأخذون *جذرها التربيعي* لأنفسهم في عملية بيع واضحة للوطن والضمير وفي متاجرة خاسرة بأمن الوطن والمواطن .. ولكم أن تتخيلوا كم من لص بإمكانه -تحت هذه الظرفية- أن يتحرك في ربوع الوطن ويصل إلى خارج البلاد وينجو بسرقته ، وكم من مجرم بإمكانه الفرار بجريمته وكم من متطرف خطير بإمكانه أن يصل إلى منابع تطرفه مهما سجن ومهما حكم عليه في ظل الوضعية السائبة هذه ، رغم أن هذه الفترة بالذات هي أكثر الفترات الأمنية حساسية ؛ حيث يوجد أخطر سجين خارج زنزانته في وضعية فرار مازالت خيوط تفاصيلها متشابكة ، وفي ظل وجود عصابات فارة تبادلت في يوم قريب إطلاق النار مع القوى الأمنية داخل العاصمة ، وفي ظل رواج تجارة المخدرات والسطو والاعتداء على الممتلكات .. إلى متى تصرف الدولة على هؤلاء ثم يميعوا الخدمة الأمنية الجليلة مقابل رشى لا تفيد ولا تغني ؟
إلى متى يغيب فينا الحس الوطني والوعي بالمسؤولية ؟ .
ومع أن داء الرشوة مستشر في كثير من البلدان المزدهرة وخاصة على هامش الأمن ؛ فمثلا شاهدنا ذات مرة تقريرا عن الرشوة في بعض بلدان العالم وكان من بين الأمثلة المصورة *شرطيين* يأخذون رشاوي من سائقي سيارات أجرة على قارعة الطريق في *موسكو* عاصمة *روسيا* ، وشاهدنا بأم أعيننا أخذ الرشوة من طرف رجال أمن في *الجزائر*مثلا القوية أمنيا وصناعيا ،وشاهد غيرنا مثل ذلك في المغرب والسنغال -مثالا لا حصرا-وهما الجارتين المزدهرتين نسبيا .. لكن ذلك ظل استثناءات لم تؤثر على دور الأمن في هذه البلدان ، أما في بلادنا فالحالة هذه غيبت دور الأمن الحقيقي وميعته وأضعفته ؛ لأن آخذ هذه الرشى فينا يتغافل تماما عن دوره الشريف والمحوري في تأمين البلاد والعباد ..
لماذا لا تكون هناك دورات تدريبة لإحياء الوطنية وتحديث وزرع القيم من أجل صحوة الضمير ؟
لماذا لا يلزم كل ناقل بتقديم لائحة بأسماء الركاب وأرقام هواتفهم كما يحدث مثلا على طريق انواذيبو أحيانا ؟ ولماذا لا تكون هناك أجهزة كاشفة لمحتويات الأمتعة ( اسكانير) كالذي يوجد بين بلادنا والمغرب مثلا .
لماذا لا يتم تقييد كل راكب عند كل فصيل من هذه القطاعات الأمنية وعدم الاقتصار في حالات التسجيل النادرة على بعض الأجانب لحاجة في نفس المقيد ؟
لماذا لا نسعى في إغناء هؤلاء المشرفين على الأمن عن هذا التسول المبطن والمقنع .. بالعلاوات بالأعطيات بالرقابة بالصرامة بالتكوين بكل ما من شأنه أن يساعد في اختفاء هذه الصورة المقززة.. ؟!!
-حدثت هذه الرحلة في يناير 2016 الجاري ومثيلاتها كثر ..