أما عن محافظتها على قوتها واستمرارها فتأتى من علاقتها بالدين حيث يعتبر من أقوى النظم الاجتماعية التي عرفتها المجتمعات البشرية منذ بدء الخليقة... ولئن اختلف العلماء في تحديداتهم لماهيته.وتضاربت آراؤهم حول تحديد مصادره.. أو سبب وجوده .. فإنهم لا يختلفون على أنه موجود كظاهرة
اجتماعية صاحبت الإنسان في جميع أطواره الثقافية عبر التاريخ. وان له علاقة تأثير وتأثر بمعظم النظم الاجتماعية السائدة في المجتمع لعلاقته بالإنسان وارتباطه بصميم الواقع الاجتماعي. (وانطلاقا من هذه المسلمة سنحاول أن نتبين علاقة النظام الديني بالنظام اللغوي كما نلاحظها في الحالات التالية:
1ـ إن الأديان مهما اختلفت أنواعها فهي مجموعة من القواعد الضابطة لسلوك الفرد مع نفسه ومع الجماعة، ومن حيث هي كذالك تتطلب ـ بالضرورة ـ الاستعمال اللغوي في الدعوة لها ، وفي ممارسة طقوسها ، بل وفي اعتناقها كالتشهد في الإسلام مثلا (حيث يعتبر التلفظ بالشهادتين ، شرطا للدخول في الدين الإسلامي).
2 ـ يؤثر الدين في اللغة ببعض الخصائص التي يتميز بها، ومن هذه الخصائص الرموز التي تحمل دلالات، ولا توجد بنفس المعنى في غير النطاق الديني، ككلمة (أحد) التي ترمز إلى الوحدانية وكلمة (البعث) التي ترمز إلى يوم القيامة في الآخرة، وكذا (الخلود)، و(الصراط) و(الحساب والعقاب)، والرموز الحرفية مثل: (ألف ـ لام ـ ميم)و(ياسين) و(كاف ها يا عين صاد) في القرآن الكريم. فهذا النظام الرمزي في لغة الدين له تأثير ظاهر في النظام اللغوي عموما حيث يغير مدلول كلمات أو يضيف دلالات جديدة إلى اللغة السائدة.
3 ـ من خصائص الدين أنه يتعلق بمبادئ قيم ثابتة، وبكائن علو أبدي، والاتصال بهذا الكائن العلوي الأبدي, أو اتصال الكائن العلوي بالكائنات الدنيا يتسم بوسيلة الاتصال التي هي اللغة، ويبدو ذالك واضحا في لغة الدعوات مثلا، وأسلوب التضرع إلى الله ..الذي لا يكاد يتغير في جميع الديانات منذ ظهورها، مع أنه كلام بشر ويجوز الاجتهاد في تغييرأٍسلوبه:
(نقصد الكلمات التي تصاغ بها الدعوات إلى الله ، وليس كلام الله المقدس الذي لا يجوز تغيير صيغته).
ومن الأمثلة البارزة على ذالك :اللغة العبرية التي زالت من التداول منذ أكثر من عشرين قرنا، ولكنها بقيت محفوظة كلغة خاصة بفضل علاقتها بأسفار التوراة التي ظل اليهود يحافظون عليها حيثما تشتتوا في أقطار العالم إلى أن اصطنعوا وطنا قوميا لهم في هذا القرن، فوجدوا وسيلة الاتصال قائمة بين اليهود ـ على ضعفها ـ فعملوا على تقويتها وإثرائها بالمفردات العلمية لتساير العصر، وليجعلوا منها إحدى دعائم القومية اليهودية، وإحدى رسائل الاتصال بين أشتات اليهود من سلالات البشر المختلفة. ويمكن القول بأن اللغة العبرية لو لم تكن لغة الدين اليهودي لزالت من الوجود إلى الأبد، ولعلها هي اللغة الوحيدة التي عادت إلى وضعها الصحي بعد جمود دام أكثر من عشرين قرنا. ونفس الكلام يمكن أن يقال عن اللغة العربية، فلو لم يكن القرآن هو حافظ اللغة العربية لتغيرت كثيرا عما هي عليه الآن، ولو فرضنا أن التوراة أوالإنجيل أو القرآن أنزل باللغة السامية الأولى لوجدنا هذه اللغة مستعملة إلى يومنا هذا.
وأقرب مثال إلينا في هذه الحالة هي اللغة القبطية في مصر فعلى الرغم من زوال هذه اللغة تماما من التداول اليومي منذ عدة قرون فإننا نجدها باقية في الكنائس القبطية، ومستعملة في الطقوس الكنائسية والأدعية والتراتيل.
ويكفي القول في موضوع المحافظة بأن الدين يتعلق بكائن أبدي (خالد). واللغة التي يبلغ بها هذا الدين، أو اللغة التي تمارس بها طقوسه، لا بد أن تكون بالضرورة باقية ما بقي هذا الدين قائما في المجتمع.
4 ـ تفرض لغة الدين نفسها على معظم فئات المجتمع لأن الدين يخلق عادات(241). وقيما وتقاليد في المجتمع لا يجد الفرد بدا من إتباعها ـ طوعا أو كرهاـ. ومن الأمثلة التي يظهر فيها فرض الدين اللغة على الألسن ترديد الناس لبعض التعابير الدينية المختلفة())
والملاحظ أن تلك التعابير تتردد حتى على ألسنة أناس يجهرون بإلحادهم, فهم على كفرهم يذكرون الله إذ يقسمون بقولهم(والله العظيم) ويترحمون على الأموات بقولهم (الله) يرحمه أو يردون على المتسولين بقولهم (الله يفتح),أو الله كريم) وذالك يصدر عنهم ـ
لا شعوريا ـ يحكم العادة، والتطبع، أو ـ شعوريا ـ بفعل ماللنظام الاجتماعي من قوة الجبر وإلزام الأفراد على عدم الخروج عن بعض قواعده، وضوابطه العامة.())
ويظهر تأثير الدين في اللغة في المناسبات المتعددة كالمواسم والأعياد، وترديد الناس للمدائح الدينية بكيفية خاصة، ولغة خاصة، ومن أوجه هذا الارتباط بين الدين واللغة ما يظهر باستمرار من كتابات أدبية، أو فلسفية، أو فقهية، أو علمية...تكتب حول الدين شرحا، أو نشرا، أو دفاعا عنه في وجه خصومه.
والملاحظ من هذا المثال الأخير أن للغة ـ أيضا ـ تأثيرا في الدين بقدر ما للدين من دور في نشر اللغة()، والحفاظ عليها .. فبالقدر الذي كان الدين دافعا للكتاب، والفلاسفة، والعلماء على التفكير، وإنتاج الآثار الأدبية الرائعة دفاعا عنه ونشرا له، كانت اللغة وسيلة مؤثرة في الدين بوصفها أداة تبليغ الآخرين، وكلما كانت غنية في بلاغتها، وأجادت التعبير عن التعاليم التي يبشر بها الدين كلما ساعدت على نشره أرسخت مبادئه، ورغبت فيه... ولعل بلاغة القرآن وإعجازه البياني الذي يؤثر في النفوس لأوضح مثال على تأثير اللغة في الدين ، ولا أدل على ذالك من أن القرآن المترجم لا يجد قارئه أي ذوق أو جاذبية أو أثر في نفسه أشبه بذالك الذي يستشعره المسلم من بلاغة وعذوبة عندما يقرأ القرآن بلغته الأصلية.
ونخلص إلى الإقرار بوجود علاقة قوية بين الدين واللغة تتمثل في تأثير كل منهما في الآخر بمقادير متفاوتة. وبقدر ما يكون الدين منتشرا في المجتمع بقدر ما تكون علاقته باللغة أقوى تأثيرا وتأثرا، والعكس صحيح في بعض الأحيان: أي بقدر ما يبتعد أفراد المجتمع عن الدين تكون لغة هذا الدين ضعيفة في المجتمع، وأبرز مثال على ذالك ضعف اللغة اللاتينية وتقلصها في أوربا.() حينما بدأ نطاق الدين المسيحي في السنوات الأخيرة إلى الإفتاء بجواز إلقاء خطب الوعظ ...باللغات المحلية، التي يفهمها الجمهور ترغيبا له في الدين () وفي هذه الحالة أيضا نجدنا أمام مثال واضح لتأثير اللغة في الدين, حيث يعمد إليها كوسيلة لنشر الدين، والتبشير به، وترغيب الناس في تعاليمه، ويظهر ذالك في الحملات التبشيرية بالدين المسيحي التي ما انفكت تجوب أقطار العالم، وخاصة إفريقيا، مبلغة تعاليم المسيح باللغات المحلية، علما بأن هذا إن انطبق على الديانة الإسلامية من حيث أسلوب الدعوة باللغات المحلية فإنه لا ينطبق عليها في تلاوة القرآن باللغات المحلية، أو الدعاء، أو الصلاة.
وهذا ما يجعل اللغة العربية أكثر ارتباطا بالإسلام من غيرها من الديانات فما هي هذه العلاقة ؟ ......يتواصل....