و لأن مصطلح هجرة الأدمغة يطلق على هجرة العلماء والمتخصصين في مختلف فروع العلم والمعرفة من البلدان النامية إلى البلدان الصناعية المتقدمة أو المعرفية، فإن هذه هجرة تسهم في زيادة فقر البلدان النامية، وزيادة غنى البلدان الصناعية والمعرفية وقوتها حيث قامت هذه البلدان النامية بتعليم
و تدريب هؤلاء العلماء و المتخصصين عشرات السنين، وتلقفتهم من بعد شبه جاهزين و بقليل من التعليم والتدريب زادت التنمية الشاملة لدى البلدان المتقدمة المستقبلة لهم، ونقصت في البلدان النامية. وبكلام آخر زاد الفقراء فقراً والأغنياء غنى؛ لأن التكنولوجيا إجمالاً يستغلها الأغنياء والأقوياء لمصلحتهم، وخاصة في عصر المعلومات، مما أدى إلى زيادة الفجوة الرقمية التي هي فرق في الميادين المتخصصة في المعرفة والعلم والعقل والاقتصاد والتعليم، أي إنها فجوة شاملة لميادين عديدة، ولاسيما في دخل الفرد والمجتمع، وتزداد باضطراد في القرن الحادي والعشرين.
و مما لا شك فيه أيضا ـ و في مفارقة وحده العصر يستوعبها ـ أن هجرة الأدمغة من البلدان التي لا تزال تخطوا خطواتها الأولى إلى النمو و التصنيع و التطور أمر يشكل بمنطق مفارق هو كذلك ظاهرة صحية يذيع بها صيت هذه البلدان، تدر عليها خراجا من العملة الصعبة و تهيئ لها أسباب حضور عالمي لا يقدر بثمن.
و لكن الحقيقة المرة أو على الأقل الحقيقة الماثلة بكل تجلياتها هو أن الأدمغة الموريتانية التي كثيرا ما يجري الحديث بإسهاب و غلو عنها قليلة جدا حتى يمكن القول بهجرتها، و لكنها كثيرة هي الطاقات و القدرات من أساتذة جامعيين بمستويات فوق المقبول و مهندسين و غيرهم من فنيين ماهرين الذين اصطادهم اليأس من عدم الحصول على فرص العمل المدر و الضامن لعيش كريم و عطاء يشكر و من استحالة تجسيد طموحاتهم و تصوراتهم المشروعة على أرض الواقع في ظل غياب الإمكانات لتحقيق ذلك و التشجيع المعنوي الذي يفتح أبواب الإبداع و التحدي.
حقيقة أكثر من مُرة تتجلى بكل سوداويتها عندما يُمعن النظر في واقع البلد الذي ظل يراوح مكانه منذ عقود أربعة أو تقل قليلا رغم مفرزات التعليم بكل درجاته و أشكاله و في كل حقوله بالداخل و من الخارج، وكذلك المقدرات الهائلة من مناجم و بترول و أسماك و أراضي خصبة و ثروة حيوانية متنوعة و إطلالة استراتيجية على المحيط الأطلسي و منه على العالم المتحرك ملأ الآفاق. ولما لم:
ـ تهيأ مطلقا أرضية استيعاب هذه القدرات من خريجي الجامعات و المعاهد العالية و المدارس التقنية الذين تتزايد أعدادهم عاما بعد عام،
ـ و لم تتطور عقلية التجار في ثوب رجال الأعمال و الأغنياء من المال العام و المضاربات بدافع الجشع و الطمع و الربحية الهدامة دون أن يتوجهوا إلى الصناعة التي تستوعب هذه الطاقات و تجعلها تدفع البلد إلى الأمام تحقق له استقلاليته و تنافسيته في سياق العولمة العام، فإنه كان لزاما على أكثرهم طموحا وأقلهم قبولا بالأمر الواقع وضياع المحصل، فقد توجهوا فورا إلى كل البلدان التي تنشد القدرات و تثمن المؤهلات لصالح تطورها و متطلب بقائها ليجدوا حيزا يقدرون فيه و يفتح لهم باب التشغيل المثمر و الحفاظ ثم تطوير مؤهلاتهم التي اكتسبوها فترة تعلمهم.
حقيقة تؤكد معاناة البلد من ثنائية غياب التخطيط من ناحية، و سطوة النفعية القاصرة عن إدراك متطلبات الاقتصاد الإيجابي الذي محوره تطوير البلاد و ضمان استقلاليتها من ناحية أخري؛ حقيقة تستدعي إلزامية مراجعة سياسة التشغيل ومن قبله التعليم في شق مخرجاته التي تلبي حاجة البلاد إلى التنمية في كل التخصصات من جهة، و سياستها الاقتصادية و على رأسها ضرورة قيام شقها النهضوي المتعلق بالتصنيع القاعدي و التحويلي حتى يستوعب، في بعده الوطني و من أجل تحقيق استقلالية مطلوبة بإلحاح، مخرج التعليم الفني و المحاسبي و التخطيطي الإداري، من ناحية أخرى.
و إنه بهذا وحده يمكن تلافي النزيف الذي تعاني منه البلاد وهي تخسر مرتين. وتتمثل الخسارة الأولى فيما تصرفه من أموال طائلة على تعليم وتكوين هؤلاء المهاجرين من قلة العمل وغياب فرص تحقيق الطموحات الذاتية الفردية و الجماعية إلى بلدان عبر العالم تتلقفهم عند أول وهلة. وأما خسارتها الثانية و الأكثر فداحة فتتمثل في إخلاء البلاد من طاقاتها الخلاقة وقدراتها الشابة المتخصصة و المتنوعة التخصصات و الملكات، فيما تغمر البلاد كالسيل الجارف موجات من المهاجرين تقذف بها عديد بلدان القارة و غيرها لتملأ أماكنهم الشاغرة و تستنزف الأموال التي تغادر و لا ترجع؛ موجات من الفنيين بأضعف المستويات و أقل المؤهلات لتترك بصمات اللا إتقان و تزيد من مظهر التأخر القائم أصلا.
و أما الأدمغة التي لا تلبي على أهميتها في المرحلة الراهنة طموحات البلاد التي ما زالت متواضعة لبعدها عن استنطاق مستواها و الانتفاع بمردوديتها اللهم إن احتضنتها ـ إلى حين اشتداد و استواء عود البلد ـ فضاءات أخرى فيحقق له بها مقصدي المردودية المادية و السمعة الطيبة التي تعزز المكانة و ترفع الشأن، فإن الحديث عن هذه الأدمغة يبقى من باب الترف الفكري و تضخم "أنا" الهوية أو الذاتية، يصرف النظر و يبعد عن الاهتمام باستيعاب الطاقات المكونة و المدربة في العملية التنمية التي يجب أن تشملها سياسة تنموية تعتمد التخطيط و الاستشراف المدققين.