قبل البدء في هذا المقال من المهم عندي تبيين وجهة نظر حول قناعتي الراسخة أن أي حل لقضية الحراطين أو أي قضية وطنية من فقر وهشاشة وجهل وتخلف وقضايا الأقليات وشتى أنواع التهميش والظلم الواقعة في هذا البلد تمر مبدئيا بإيجاد وخلق الإطار القادر والقابل على حلها
وهو ما لا يمكن أن يوجد في ظل الدولة الحالية، دولة العسكر والقبيلة. لا مكان لأي حل في ظل هذه الدولة إلا اذا كان انتاج أنماط مشابهة تعمق أصل المشكلة ، لأنها هي أصل المشكلة الكبرى للوطن انطلاقا من المحسوبية والقبلية والجهوية واستغلال الجيش وقوته في النزعات والنزوات الشخصية لكل انقلابي نجح انقلابه، إن نفس النظام الذي نناضل داخله اليوم هو الذي أضفى أبعادا جديدة على مشاكل كانت عالقة وعمقها وراهن عليها في استمراره.
1
تمر الذكرى الأولى للحكم بسجن رئيس حركة إيرا بيرام ولد اعبيد و نائبه ابراهيم بلال لسنتين بعد مشاركتهما في تظاهرة (مرخصة) ضد ما حالات من العبودية العقارية..
منذ لحظة الاعتقال كثرت ردود الأفعال وتمايزت التفسيرات والاعتبارات أمام هذا الحدث الذي ينبئ أولا بالتهديد الكبير الذي مس ساحة الحريات العامة في البلد والتي شهدت تقدما في العقد الأخير نتيجة لنضالات الموريتانيين المريرة والمتراكمة.
من الضروري التأكيد على أن ذلك التقدم في الحرية لم يكن حقيقيا : أي لم يكن مؤسسا على مبادئ ثابتة فوق كل السلطات وملزمة لها، فقد صرح ذات يوم الجنرال عزيز ذات مرة أن "كهولة" المعارضة يستفزونه لكي يعتقلهم لكنه لن يفعل ذلك معطيا لنفسه (البوليسية) حق القيام بتقييد الحريات من عدمه متى شاء وهو ما يؤكد أن ما يوجد من الحرية حتى الآن ليس حرية قيمية معتمدة على بناء مؤسسي في موريتانيا وإنما وقف تنفيذ القرار الجنرالي بحبس الحريات .
إن تباين الآراء والمواقف من الحدث أظهر جانبا مؤسفا من سهولة تخلي بعضنا عن قيم عليا كقيمة الحرية كحق أساسي لكل إنسان، وأوضحت أيضا سهولة انجراف بعضنا إلى ما تمليه عليه عواطفه لأول وهلة وضعف حضور التحري والمنطق و الحق كعوامل أساسية في بناء مواقفنا.
ساهم الكثير من الذين قابلتهم أو قرأت لهم أو اطلعت على ردودهم على صفحات التواصل الاجتماعي في محاكمة روصو الهزلية عن طريق محاكمات ذهنية وعاطفية إن لم أقل عنصرية، ومن المثير للسخرية أن التهم التي قدمها جماهير "المرافعين العاطفيين" كانت مختلفة عن التهم التي قدمتها المحاكمة السياسية ورغم ذلك فقد اتفقوا مع الحكم.
2
لقد حوكم بيرام من قبل أفراد ينتمون لبعض فئات المجتمع بمجموعة من التهم من بينها العنصرية والخطاب التقسيمي والدعوة إلى الحرب الأهلية، ورغم أن عمل بيرام كمناضل حقوقي ضد الاستعباد ومخلفاته وانطلاقا من قسوة ذلك الإرث وتجذره ثقافيا واجتماعيا وارد فيها - جدا- أن يكون أي خطاب ناعم غير مجدي بالمرة في حلحلة ذلك الواقع.
لكن الشخص الذي أذكر أنه لمح إلى الحرب الأهلية واستخدام السلاح لم يكن بيرام، بل هو داود ولد أحمد عيشة الذي يتجول اليوم في سيارته من نوع V8 – حسب آخر مرة رأيته فيها - ويلقى خطابه رواجا كبيرا بين الفتية المتأدلجين بنعرات وغباءات القبيلة.
إن الذي أعطى لخطاب بيرام وقعا وتأثيرا هو وضوح وجلاء القضية التي يتحدث عنها، فحالات العبودية تكتشف يوميا ونفس المحاكمة الهزلية التي حاكمت بيرام بقوانين ما تحت الطاولة هي ذاتها التي تحاكم المستعبدين الذين يمسكون متلبسين بحالات استعباد واضحة ويحاكمون بنفس قوانين ما تحت الطاولة (إطلاق سراحهم غالبا) ، كما أن الوضع الكارثي الذي تعيشه شريحة الحراطين من فقر وتهميش وتغييب في شتى المجالات .. نعم الشعب الموريتاني بشكل عام يعيش تحت الفقر والتهميش والتغييب أيضا، لكن هذا يجعل لا يجعل إشكالية الحراطين غير واردة كحالة خاصة، فهم الشريحة التي كانت مهمشة تاريخيا وزادها تهميش وتغييب بقية أفراد الشعب بشكل كامل تهميشا أكبر.
من البديهي أن الأرقاء السابقين الذين تم تحريرهم كان استغلال عرقهم وسخرتهم في تراكم ثروة الاستعباديين غير معوض وبالتالي فقد تم تسريحهم من العبودية بلا رصيد ودون أي تعويض .. وهو ما يجعل الفقر والتهميش مسألة حتمية وبديهية لا يحتاج فهمها وقبولها أي قدرات تحليلية .
إن معيار لغة الكراهية التي اقترحها البعض كتهمة في تلك المحاكمة العاطفية لبيرام، وهي عبارة عن مفهوم غاية في النسبية خصوصا أنها تهمة استخدمت ضد كل من طالب بحق لم تكن المنظومة الاجتماعية الطاغية معترفة به، إن أي لغة مطالبة بالحقوق بالنسبة للمجتمعات "المحافظة" هي لغة كراهية فيما تمر لغة الكراهية الحقيقية بشكل مقبول تماما (مثال يحظيه ولد داهي) .
إن قضية لحراطين ستظل قضية جوهرية وساخنة في الساحة لأنها قضية حقيقية تمتد بجذورها وواقعها في المجتمع تاريخيا، وسيبقى للتاريخ والزمن أن تقييد الحريات وضيق الباع في تقبل بعضنا لبعض لن يبقى منه للزمن والذكريات إلا طبيعته المخجلة المسيئة لاحترام المجتمع لذاته