هي لغة الإسلام لأنها لغة القرآن الكريم. ولغة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا الارتباط يأتي في أن القرآن الكريم كان له الدور الكبير في توجيه وتطوير وتقويم اللغة العربية فمن أجل ذالك كان لا بد لمن أراد العكوف على دراسة العربية وآدابها من أن يعكف على دراسة القرآن وعلومه، وكلما ابتغى
مزيدا من التوسع في العلوم العربية وثقافتها، احتاج إلى مزيد من التوسع في دراساته القرآنية المختلفة. ويلخص البوطي هذه الحاجة وأسبابها في النقاط التالية: السبب الأول: أن هذا الكتاب العربي المبين، هو أول كتاب ظهر في تاريخ اللغة العربية(68) وإنما نشأت حركات التدوين والتأليف بعد ذالك على ضوئه وسارت بإشرافه، وتأثرت بوحيه وأسلوبه. ومن أجل ذالك ، كان مظهرا هاما للحياة العقلية والفكرية والأدبية التي عاشها العرب فيما بعد، فكيف يتأتى أن يكون هذا الكتاب مع ذالك بمعزل عن العربية وعلومها وآدابها؟!..
السبب الثاني: أن اللغة العربية إنما استقام أمرها على منهج سليم موحد، بسر هذا الكتاب وتأثيره، وهي إنما ضمن لها البقاء والحفظ بسبب ذالك وحده. فقد كانت اللغة العربية من قبل عصر القرآن أمشاجا من اللهجات المختلفة المتباعدة، وكان كلما امتد الزمن، ازدادت هذه اللهجات نكرة وبعدا عن بعضها وحسبك أن تعلم أن: المعينية، والسبئية، والقتبانية، واللحيانية، والثمودية، والصفوية، والحضرمية، كلها كانت أسماء للهجات عربية مختلفة، ولم يكن اختلاف الواحدة منها عن الأخرى محصورا في طريقة النطق بالكلمة، من ترقيق أو تفخيم أو إمالة أو نحو ذالك, بل ازداد التخالف واشتد إلى أن انتهى إلى الاختلاف في تركيب الكلمة ذاتها وفي الحروف المركبة منها، وفي الإبدال والإعلال والبناء والإعراب. فقضاعة مثلا كانت تقلب الباء جيما إذا كانت باء مشددة أو جاءت بعد العين، وكانت العرب تسمي ذالك: عجعجة قضاعة، ومن ذالك قول شاعرهم: خالـي عويـف وأبـو علبـــجّ المطعمــان اللحـم بالعشـــجِّ وبالغــداة قطــع البرنـــجِّ يؤكـل باللحـم و الصيصـــجّ وحمير كانت تنطق ب "أم" بدلا من "أل" المعرفة في صدر الكلمة، وكانت العرب تسمي ذالك طمطمانية حمير. ومن ذالك قول أحدهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيسأله:أمن أمبر امصيام في أمسفر؟ يريد أن يقول: هل من البر الصيام في السفر؟ وهذيل كانت تقلب الحاء في كثير من الكلمات عينا، فكانوا يقولون أعلَّ الله العلال بدلا من أحل الله الحلال...وهكذا دواليك... فقد كانت كل قبيلة تختلف في النطق عن الأخرى بوجوه من الاختلافات كثيرة، حتى باعد ذالك بين ألسنة العرب وأوشك أن يحول اللغة الواحدة إلى لغات عدة متجافية لا يتفاهم أهلها ولا يتقارب أصلها. ولقد بلغ من تخالف هذه اللهجات وتباعدها، أن كثيرا من وفود هذه القبائل التي أخذت تفد في صدر الإسلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يلقون كلمات وخطب لا يكاد يفهمها القرشيون من أصحابه عليه الصلاة والسلام ولقد قال علي رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سمعه يخاطب بني نهد: يا رسول الله، نحن بنو أب واحد، ونراك تكلم وفود العرب بما لم نفهم أكثره! .. فقال عليه الصلاة والسلام :" أدبني ربي فأحسن تأديبي"(69)
فلما نزل القرآن، وتسامعت به العرب، وائتلفت عليه قلوبهم، أخذت هذه اللهجات بالتقارب(70) وبدأ مظاهر ما بينها من خلاف تضمحل وتذوب، حتى تلاقت تلك اللهجات كلها في لهجة عربية واحدة ، هي اللهجة القرشية التي نزل بها القرآن وأخذت ألسنة العرب على اختلافهم وتباعد قبائلهم تنطبع بطابع هذه للغة القرآنية الجديدة. فكان ذالك سر هذا الشريان السحري العجيب الذي امتد في أجلها، فاستصلبت وقويت بعد تفكك واتحدت بعد تناثر، ثم مرت على مصرع أعظم لغة عالمية شاملة هي (اللاتينية) بينما تغلي هي حيوية وقوة وإشراقا. فكيف تمكن مع ذالك دراسة شيء من أدب هذه اللغة دون دراسة روحها التي تعيش بها وشريانها الذي يمتد فيها وينشأ من أجله.!؟
السبب الثالث: أن البلاغة والبيان وجمال الكلمة والتعبير ـ كل ذالك كان قبل عصر القرآن ـ أسماء لا تكاد تنحط على معنى واضح متفق عليه. وإنما بلاغة كل جماعة أو قبيلة ما تستسيغه وتتذوقه، ولذالك كانت المنافسات البلاغية تقوم فيما بينهم وتشتد ثم تهدأ وتتبدد، دون أن تنتهي بهم إلى نتيجة، إذ لم يكن أمامهم مثل: أعلى يطمحون إليه ولا صراط واحد يجتمعون عليه، ولم يكن للبلاغة العربية معنى إلا هذا الذي يصدرون هم عنه من كلام في الشعر والنثر، وهم إنما يذهبون في ذالك طرائق قددا، ويتفرقون منه في أودية متباعدة يهيمون فيها.
وهيهات لو استمر الأمر على ذالك، أن توجد للبلاغة والبيان العربي حقيقة تدرك أو قواعد تدرس، أو قوالب أدبية تهذب العربية وتحافظ عليها. فلما تنزل القرآن ، والتفتوا إليه فدهشوا لبيانه، سجدوا لبلاغته وسمو تعبيره، وأجمعوا على اختلاف أذواقهم ومسالكهم ولهجاتهم أن هذا هو البيان الذي لا يجارى ولا يرقى إليه النقد ـ كان ذالك إيذانا بميلاد مثلهم الأعلى ـ فيما ظلوا يختلفون فيه ويتفرقون عليه، وأصبحت بلاغة هذا الكتاب العزيز هي الوحدة القياسية التي تقاس إليها بلاغة كل نص وجمال كل تعبير، ثم تعاقبت الدراسات عليه من أرباب هذا الشأن وعلمائه، فاستخرجوا منه قواعد البلاغة ومقومات البيان ومسالك الإعجاز فكانت هذه العلوم البلاغية التي امتلأت بها المكتبة العربية، وأصبحت فنا مستقلا بذاته. ولولا القرآن لما عرف هذا الفن ولا استقامت تلك الأصول والقواعد، ولتبدد المثل البلاغي الأعلى في أخيلة فصحاء العرب وشعرائهم.. فكيف يستقيم مع ذالك، أن يدرس هذا الفن وأصوله بمنأى عن مثله الأعلى ومصدره العظيم الأول ؟.
وهذا ما يؤكده ابن خلدون بقوله: " اعلم أن ثمرة هذا الفن (أي البيان) إنما هو فهم إعجاز القرآن ".(71) السبب الرابع: أن متن هذه اللغة ، كان مليئا قبل عصر القرآن بالكلمات الحوشية الثقيلة على السمع المتجافية عن الطبع. ولو ذهبت تتأمل فيما وصل إلينا من قطع النثر أو الشعر الجاهلي، لرأيت الكثير منها محشوا بهذه الكلمات التي وصفت وإن كنت لا تجد ذالك إلا نادرا في لغة قريش. ويستدل البوطي على هذا بقطعة من نص نثري كنموذج لكلامهم في الجاهلية أو كلام الأعراب الذين أدركوا الإسلام ولكن ألسنتهم ظلت على ما انطبعت عليه في نشأة الجاهلية وهي كلمات قالها أعرابي .. يستجدي مالا؛
(أما بعد فإني امرؤ من الملٌطاط الشرقي المُواصي أسياف تهامة، عكفت علينا سنون مُوحٌش، فأجٌنًبت الُذُرى وهمشت العُرى وجَمشَت النجم وأعجًت ألبهم، وهمًت الشحم، والتًحبت اللحم و أحٌجًنت العظم ، وغادرت التراب مورا، والماء غورا، والناس أوزاعا و الضًهيل جَراعًا، والمقام ًجعٌجاعًا، فخرجتُ لا أتلفَّع بوصيدة.، ولا أتقًوت بمهيدة، فالَبخَصات وقعة والركبات َزلَعة، والجسم مُسَلٌهمٌ،والنظر مُدٌرَهمٌ، فهل من آمر بَمٌبر أو داع بخير" (72)فلما تنزل القرآن، وأقبلت إليه الآذان، أخذت هذه الكلمات الجافية تختفي عن ألسنة العرب رويدا رويدا، وأصبح متن اللغة العربية كله مطبوعا بالطابع القرآني، ونما ذوق عربي في نفوس العرب أنبته لديهم القرآن وأسلوبه. ومرد ذالك إلى أن كلمات هذا الكتاب المبين، رغم أنها كانت عربية لم تتجاوز حدود هذه اللغة وقاموسها، تمتاز في صياغتها وموقع كل منها مما قبلها وبعدها بجرس مطرب في الأذن لم يكن للعرب عهد به من قبل، هذا إلى أن كثيرا من الاشتقاقات والصيغ الواردة فيه، تكاد تكون جديدة في النطق العربي، وهي مع ذالك تحي بمعناها إلى الفطرة والطبع، قبل أن يهتدي السمع إليها بالمعرفة والدروس. فكان من أثر ذالك أن انصرفت الأذواق إلى الاستفادة من كلماته والجديد من صياغته، وهجرت تدريجيا ما استثقل وغلظ من الألفاظ والتراكيب".
وبمقارنة بسيطة بين نص أدبي من العصر الجاهلي وآخر من العصر الإسلامي يتضح لك دور البلاغة القرآنية في كل من الأسلوب والجمل والكلمات. وكان للإسلام فضله على اللغة العربية أيضا بالإضافة إلى هذا كله في اشتراطه للتعبد بها. مما جعل الملايين من الشعوب الإسلامية حتى غير العربية تحاول أن تتعلم اللغة العربية, ولو بالقدر اليسير الذي يمكنها من قراءة الدعوات وبعض السور القصار من القرآن الكريم، وهذه الشعوب إن لم تجد اللغة العربية، فهي دائمة التشوق إليها من غيرها.. " فقد انتشرت في آسيا، وإفريقيا، وأوروبا، واقتبست لغات عدة نسبة عالية من مفرداتها، ولم يقف انتشارها عند ذالك الحد، بل إنها تزدهر اليوم في معظم بلدان العالم من خلال انتشار الإسلام فيها، وتطلع المسلمين إلى تعلم لغة القرآن الكريم، ليعرفوا دينهم ويتفقهوا فيه "(73) ولقد تقدم أن جميع المحاولات التي كانت تدار للقضاء على لغة القرآن باءت بالفشل الذريع، وتحطمت كل مساعيهم على صخرته الصلبة حيث بقيت لغة كلام الله (74) وذالك كله راجع إلى كونها لغة القرآن ليس إلا. فقد حوربت من أعدائها لهذا السبب، وحوفظ عليها من أبنائها لنفس السبب أيضا لأنها لغة كلام الله، ولغة تأدية الشعائر الدينية، ولغة أهل الجنة. ولعل هذا ما دفع بشيخ الإسلام ابن تيمية ,.....يتواصل.....